للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ضُعَفَاءَ وَكَانُوا أَقْوِيَاءَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ حَقَّ الْإِيمَانِ يَكُونُ أَشْجَعَ النَّاسِ وَأَعْلَاهُمْ هِمَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْشَى إِلَّا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.

ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ إِقَامَةِ هَذِهِ الْحُجَجِ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِهِمْ، وَدَحْضِ شُبْهَةِ الْمَانِعِ مِنْهُ، صَرَّحَ بِالْأَمْرِ الْقَطْعِيِّ بِهِ مَعَ الْوَعْدِ الْقَطْعِيِّ، بِإِظْهَارِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ أَكْمَلَ الظُّهُورِ وَأَتَمَّهُ، وَهَذَا الْوَعْدُ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ التَّفْصِيلِيَّةِ فِي حَالٍ مُعَيَّنَةٍ، فَهُوَ لَيْسَ كَالْوَعْدِ الْعَامِّ الْمُجْمَلِ فِي نَصْرِ اللهِ لِرُسُلِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ أَنَّ الْعَاقِبَةَ تَكُونُ لَهُمْ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ قَبْلَهَا سِجَالًا لِتَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُهُ تَعَالَى مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا. فَقَوْلُهُ: قَاتِلُوهُمْ مَعْنَاهُ: بَاشِرُوا قِتَالَهُمْ كَمَا أُمِرْتُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ بِتَمْكِينِهَا مِنْ رِقَابِهِمْ قَتْلًا، وَمِنْ صُدُورِهِمْ وَنُحُورِهِمْ طَعْنًا، يُعْقِبُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ يَأْسًا، لَا يَدَعُ فِي أَنْفُسِهِمْ بَأْسًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْنَدَ التَّعْذِيبَ إِلَى اسْمِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَسْبَابِهِ مِنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَمَا يُفْضِيَانِ إِلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، وَكُلُّ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَ فَإِنَّهُمْ يُصَابُونَ بِالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَيُقْتَلُ بَعْضُهُمْ وَيُجْرَحُ بَعْضٌ، وَلَا يُسَمُّونَ مُعَذَّبِينَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْغَالِبَ وَالْمَغْلُوبَ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ هَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيُحْدِثُ فِي أَنْفُسِ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذَا الْقِتَالِ أَلَمًا نَفْسِيًّا لَعَلَّ أَظْهَرَ أَسْبَابِهِ الْيَأْسُ وَسَلْبُ الْبَأْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَيُخْزِهِمْ بِذُلِّ الْأَسْرِ وَالْقَهْرِ وَالْفَقْرِ لِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أَكْمَلَ النَّصْرِ وَأَتَمَّهُ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ قُوَّةٌ وَلَا سُلْطَانٌ يَعُودُونَ بِهِ إِلَى قِتَالِكُمْ كَمَا كَانَ شَأْنُهُمْ بَعْدَ نَصْرِكُمْ

عَلَيْهِمْ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِهَا وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قَدْ نَالُوا مِنْهُمْ مَا نَالُوا فِي سُلْطَانِهِمْ، فَكَانَ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ مَوْجِدَةِ الْقَهْرِ وَالذُّلِّ مَا لَا شِفَاءَ لَهُ إِلَّا بِهَذَا النَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِينَ غَدَرَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ كَخُزَاعَةَ، وَالَّذِينَ كَانُوا فِي دَارِ الشِّرْكِ عَاجِزِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ الَّذِي كَانَ وَقَرَ فِيهَا إِلَى هَذَا الْعَهْدِ مِنْ غَدْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ ظُلْمِهِمْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُجِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَشِفَاءُ الصُّدُورِ بِعِزِّ الْإِسْلَامِ بِالنَّصْرِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِهَؤُلَاءِ وَلِغَيْرِهِمْ هُوَ غَيْرُ ذَهَابِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْحِقْدِ عَلَى مَنْ غَدَرَهُمْ وَظَلَمَهُمْ.

وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ كَرَاهَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِقِتَالِهِمْ حِرْصُهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِفَتْحِ مَكَّةَ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِالْإِقْنَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، أَخْبَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا التَّعْذِيبَ وَالْخِزْيَ الَّذِي سَيُنْزِلُهُ بِهِمْ لَا يَعُمُّهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ بِمَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ، وَأَحَاطَ بِهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِلْإِيمَانِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ سَيَتُوبُ مِنْ شِرْكِهِ، وَيَقْبَلُ اللهُ تَوْبَتَهُ فَقَالَ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ فَيُوَفِّقُهُ لِلْإِيمَانِ وَيَقْبَلُهُ مِنْهُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنِ اسْتِعْدَادِهِمْ فِي حَالِهِمْ، وَمُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ، وَيَشْرَعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ فِيهِمْ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِ، وَإِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. فَمَشِيئَتُهُ فِي التَّائِبِينَ وَالْمُصِرِّينَ تَجْرِي بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِشُئُونِ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ فِي السُّنَنِ الَّتِي وَضَعَهَا لِسَيْرِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَفِي الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا لِهِدَايَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>