للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رِضًى مَعَ تَنْكِيرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْآتِي وَجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ وَجِوَارِ الرَّحْمَنِ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَيْ: لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ عَظِيمٌ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ،

وَلَمْ يُهَاجِرْ هِجْرَتَهُمْ، وَلَمْ يُجَاهِدْ جِهَادَهُمْ، مُقِيمٌ دَائِمٌ لَا يَزُولُ عَلَى عِظَمِهِ وَكَمَالِهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ لَفْظِهِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَيْضًا.

خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ: مُقِيمِينَ فِي تِلْكَ الْجَنَّاتِ إِقَامَةً أَبَدِيَّةً. أَكَّدَ الْخُلُودَ بِالْأَبَدِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ طُولُ الْمُكْثِ وَالْإِقَامَةِ، كَمَا قَالَ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١١: ١٠٨) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ وَالْأَبَدِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ مِرَارًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ: لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْأَجْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ - وَأَعْظَمُهُ وَأَنْفَعُهُ وَأَشَقُّهُ الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ - عَظِيمٌ جِدًّا لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ غَيْرُهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ، وَنَاهِيكَ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ الْبَاعِثِ عَلَى هَجْرِ الْوَطَنِ، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالسَّكَنِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ رَغَائِبِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا، وَبَذْلِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لِلْبَشَرِ مِنْ وُجُودِهِمْ، جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي شَرَعَهَا، وَالسُّنَنُ الَّتِي سَنَّهَا، لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ، وَإِقَامَةِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ لِعِبَادِهِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَجْرِ وَالْجَزَاءِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ. فَالْأَجْرُ الرُّوحَانِيُّ قِسْمَانِ، عَبَّرَ عَنْهُمَا بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَهُمَا رُتْبَتَانِ أَوْ دَرَجَتَانِ، نَكَّرَهُمَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْوِيعِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ، تَشْمَلُ مَا يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنَ الْعَطْفِ وَالْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِمَّا هُوَ فَوْقَ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ الْخَلْقِ، الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَمَّا الرِّضْوَانُ وَهُوَ الِاسْمُ لِكَمَالِ الرِّضَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ فَوْقَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ كُلِّهِ فَإِنَّ اللهَ يَرْحَمُ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ أَعْلَى وَأَعْظَمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الرِّضْوَانَ أَعْلَى النَّعِيمِ وَأَكْمَلُ الْجَزَاءِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ أَكْبَرُ نَعِيمِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) فَقَدْ عَطَفَ الرِّضْوَانَ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ لَا عَطْفَ مُفْرَدٍ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ فَضْلٌ مُسْتَقِلٌّ فَوْقَ الْجَزَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ فِي الْوَعْدِ وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَمَا فِيهَا -

فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْلَغَ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ الرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ فِي الْجَنَّةِ مِنْ آيَةِ هَذَا السِّيَاقِ، وَمِنْ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَهُمَا: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٣: ١٥) وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ رِضْوَانَ اللهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ نَعِيمِهَا كُلِّهِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>