للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَرْبِيَةٌ خَلْقِيَّةٌ بِمَا يَكُونُ بِهِ نُمُوُّهُمْ، وَكَمَالُ أَبْدَانِهِمْ وَقُوَاهُمُ النَّفْسِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ - وَتَرْبِيَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَعْلِيمِيَّةٌ وَهِيَ مَا يُوحِيهِ إِلَى أَفْرَادٍ مِنْهُمْ لِيُكْمِلَ بِهِ فِطْرَتَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ إِذَا اهْتَدَوْا بِهِ. فَلَيْسَ لِغَيْرِ رَبِّ النَّاسِ أَنْ يُشَرِّعَ لِلنَّاسِ عِبَادَةً، وَلَا أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ وَيُحِلَّ لَهُمْ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى.

(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُمَا وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي إِعَادَتِهِمَا، وَالنُّكْتَةُ فِيهَا ظَاهِرَةٌ وَهِيَ أَنَّ تَرْبِيَتَهُ تَعَالَى لِلْعَالَمِينَ لَيْسَتْ لِحَاجَةٍ بِهِ إِلَيْهِمْ كَجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ لِعُمُومِ رَحْمَتِهِ وَشُمُولِ إِحْسَانِهِ. وَثَمَّ نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْبَعْضَ يَفْهَمُ مِنْ مَعْنَى الرَّبِّ: الْجَبَرُوتَ وَالْقَهْرَ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ لِيَجْتَمِعُوا بَيْنَ اعْتِقَادِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، فَذَكَرَ الرَّحْمَنَ وَهُوَ الْمُفِيضُ لِلنِّعَمِ بِسَعَةٍ وَتَجَدُّدٍ لَا مُنْتَهَى لَهُمَا، وَالرَّحِيمُ الثَّابِتُ لَهُ وَصْفُ الرَّحْمَةِ لَا يُزَايِلُهُ أَبَدًا. فَكَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَتَحَبَّبَ إِلَى عِبَادِهِ، فَعَرَّفَهُمْ أَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ رُبُوبِيَّةُ رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ لِيَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الَّتِي رُبَّمَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا مَعْنَى الصِّفَاتِ، وَلِيَتَعَلَّقُوا بِهِ وَيُقْبِلُوا عَلَى اكْتِسَابِ مَرْضَاتِهِ، مُنْشَرِحَةً صُدُورُهُمْ، مُطْمَئِنَّةً قُلُوبُهُمْ، وَلَا يُنَافِي عُمُومُ الرَّحْمَةِ وَسَبْقُهَا مَا شَرَعَهُ اللهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَعَدَّهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ لِلَّذِينِ يَتَعَدَّوْنَ الْحُدُودَ، وَيَنْتَهِكُونَ الْحُرُمَاتِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ سُمِّيَ قَهْرًا بِالنِّسْبَةِ لِصُورَتِهِ وَمَظْهَرِهِ فَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ وَغَايَتِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْبِيَةً لِلنَّاسِ وَزَجْرًا لَهُمْ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا يَخْرُجُ عَنْ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَفِي الِانْحِرَافِ عَنْهَا شَقَاؤُهُمْ وَبَلَاؤُهُمْ، وَفِي الْوُقُوفِ عِنْدَهَا سَعَادَتُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ، وَالْوَالِدُ الرَّءُوفُ يُرَبِّي وَلَدَهُ بِالتَّرْغِيبِ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَالْإِحْسَانِ عَلَيْهِ إِذَا قَامَ بِهِ، وَرُبَّمَا لَجَأَ إِلَى التَّرْهِيبِ وَالْعُقُوبَةِ إِذَا اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْحَالُ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ.

أَقُولُ الْآنَ: إِنَّنِي لَا أَرَى وَجْهًا لِلْبَحْثِ فِي عَدِّ ذِكْرِ " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ تَكْرَارًا أَوْ إِعَادَةً مُطْلَقًا، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنْهَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، وَهُوَ أَنَّ جَعْلَهَا آيَةً مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ يُرَادُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُلَقِّنُهَا وَيُبَلِّغُهَا لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّهَا (أَيِ السُّورَةُ) مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى أَنْزَلَهَا بِرَحْمَتِهِ لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا كَسْبَ لَهُ فِيهَا وَلَا صُنْعَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ لَهَا بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى. فَهِيَ مُقَدِّمَةٌ لِلسُّوَرِ كُلِّهَا إِلَّا سُورَةَ بَرَاءَةَ الْمُنَزَّلَةَ بِالسَّيْفِ، وَكَشْفِ السِّتَارِ عَنْ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، فَهِيَ بَلَاءٌ عَلَى مَنْ أُنْزِلَ أَكْثَرُهَا فِي شَأْنِهِمْ لَا رَحْمَةً بِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِبَدْءِ الْفَاتِحَةِ بِالْبَسْمَلَةِ أَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنَ اللهِ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَوْضُوعِ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى مَعَ بَيَانِ رُبُوبِيَّتِهِ لِلْعَالَمِينَ، وَكَوْنِهِ الْمَلِكَ الَّذِي يَمْلِكُ وَحْدَهُ جَزَاءَ الْعَامِلِينَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>