للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَيْ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ فِي كُلِّ مَا يَجِيءُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ تَحْتَ نَظَرِ الْحَقِّ دَائِمًا فَهُوَ لَا يَغْفُلُ عَنْ أَعْمَالِكُمْ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٢٤: ٦٣) وَفِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى خِطَابِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، بِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْمُنَافِقِينَ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (يَعْمَلُونَ) بِالْيَاءِ، وَهُوَ يَعُودُ إِلَى أُولَئِكَ الْمُجَادِلِينَ فِي الْقِبْلَةِ. يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: لَا يَحْزُنْكَ أَمْرُهُمْ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى جَزَاءَهُمْ، وَمَا هُوَ بِغَافِلٍ عَنْ فَسَادِهِمْ وَفِتْنَتِهِمْ.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ

فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ابْتَدَأَ هَذِهِ الْآيَةَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الْوَارِدَةِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَقَرَنَ بِهَا صِيغَةَ الْأَمْرِ السَّابِقَةِ وَجَمَعَ فِيهَا بَيْنَ خِطَابِ النَّبِيِّ وَخِطَابِ الْأُمَّةِ ; لِيُرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيلَ وَبَيَانَ الْحِكَمِ لَهُ وَهِيَ ثَلَاثٌ: الْأُولَى قَوْلُهُ: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) لَيْسَ هَذَا الْجَمْعُ وَالْإِعَادَةُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ كَمَا قَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْهِيدٌ لِلْعِلَّةِ وَتَوْطِئَةٌ ; لِبَيَانِ الْحِكَمِ الْمَوْصُولَةِ بِهِ، وَهُوَ أُسْلُوبٌ مَعْهُودٌ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ لَا يَذُوقُونَ طَعْمَ الْأَسَالِيبِ الْبَلِيغَةِ يَكْتَفُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ بِقَوْلِهِمْ: كُلُّ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، وَهُوَ نَظْمٌ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَلَا سِيَّمَا مَقَامُ الْإِطْنَابِ وَالتَّأْكِيدِ وَالِاحْتِجَاجِ وَإِزَالَةِ الشُّبَهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْمُحَاجُّونَ فِي الْقِبْلَةِ الْمَعْرُوفُونَ ; وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ وَتَبِعَهُمَا الْمُنَافِقُونَ.

وَوَجْهُ انْتِفَاءِ حُجَّتِهِمْ عَلَى الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ: هُوَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ كُتُبِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يُبْعَثُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يَكُونُ عَلَى قِبْلَتِهِ وَهِيَ الْكَعْبَةُ، فَجَعْلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً دَائِمَةً لَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ التَّحْوِيلُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ نَبِيًّا مَنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ جَاءَ لِإِحْيَاءِ مِلَّتِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ غَيْرَ بَيْتِ رَبِّهِ الَّذِي بَنَاهُ وَكَانَ يُصَلِّي هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ إِلَيْهِ، فَدُحِضَتْ حُجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ وَكُبِتَ الْمُنَافِقُونَ مِنْ وَرَائِهِمْ (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أَيْ: لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يَظَلُّونَ يَلْغَطُونَ بِالِاحْتِجَاجِ جَهْلًا أَوْ عِنَادًا لِلْإِضْلَالِ، كَقَوْلِ الْيَهُودِ: رَجَعَ إِلَى قِبْلَةِ قَوْمِهِ لِإِرْضَائِهِمْ وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِهِمْ، وَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا، وَقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّهُ مُضْطَرِبٌ مُتَرَدِّدٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى قِبْلَةٍ. وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآرَاءِ الَّتِي يُزَيِّنُهَا الْهَوَى لِلْأَعْدَاءِ، فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ بِكِتَابٍ وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِبُرْهَانٍ، وَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى حِكَمِ الْأُمُورِ وَأَسْرَارِهَا بَلْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَشَرْعِهِ بِلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ، وَهُمُ الَّذِينَ أَثَارُوا الْفِتْنَةَ، وَحَرَّكُوا رِيَاحَ الشُّبَهِ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَا قِيمَةَ لِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الظَّالِمُونَ ; فَإِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ كَمَا وُصِفُوا فِي الْآيَةِ الْأُولَى (فَلَا تَخْشَوْهُمْ) إِذْ لَا مَرْجِعَ لِكَلَامِهِمْ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا تَمَكُّنَ لَهُ فِي النَّفْسِ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى بُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ وَلَا إِلَى هَدْيً سَمَاوِيٍّ

(وَاخْشَوْنِي) أَنَا، فَلَا تَعْصُونِي بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَكُمْ بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>