للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ تُذْعِنْ لَهُ نُفُوسُهُمْ، وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ هُوَ الْيَقِينُ الْمُقَارِنُ لِلْإِذْعَانِ وَخُضُوعِ النَّفْسِ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَرِّينَ فِي أَمْرِهِمْ، مُذَبْذَبِينَ فِي عَمَلِهِمْ، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ يُوَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَسْهُلُ أَدَاؤُهُ مِنْ عِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ ضَاقَتْ بِهِ صُدُورُهُمْ، وَالْتَمَسُوا التَّفَصِّيَ مِنْهُ بِمَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْحِيَلِ وَالْمَعَاذِيرِ الْكَاذِبَةِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حُضُورُ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَشَاءِ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ. وَسَيَأْتِي فِي بَيَانِ فَضَائِحِهِمْ: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ عَدَدَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانَ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ الْمُسْتَأْذِنُونَ أَوِ الْمُتَخَلِّفُونَ مِنْهُمْ.

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٤: ٦٢) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَمَا أَرَى هَذَا الرَّأْيَ يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَإِنَّ سُورَةَ النُّورِ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ بِالِاتِّفَاقِ. وَمَوْضُوعُ الِاسْتِئْذَانِ فِيهَا غَيْرُ مَوْضُوعِهِ هُنَا، وَإِلَّا كَانَتَا مُتَنَاقِضَتَيْنِ، فَآيَةُ " بَرَاءَةٌ " فِي الِاسْتِئْذَانِ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، وَالْقُعُودِ عَنْهُ بَعْدَ النِّدَاءِ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ، وَآيَةُ " النُّورِ " فِي اسْتِئْذَانِ مَنْ يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ

كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ - وَلْيَكُنْ مِنْهُ الْجِهَادُ - وَيَعْرِضُ لِأَحَدِهِمْ حَاجَةٌ يُرِيدُ قَضَاءَهَا، وَالْعَوْدَةَ إِلَى الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا كَالَّذِينِ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَتِ الْعِيرُ بِالتِّجَارَةِ فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوهُ قَائِمًا يَخْطُبُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَجَابِرٌ الَّذِي أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ بَقِيَ مَعَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَسَبْعُ نِسْوَةٍ. وَفِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ نَزَلَتِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لَهُمْ إِلَّا إِذَا اسْتَأْذَنُوهُ وَأَذِنَ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي آيَةِ " بَرَاءَةٌ ": لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ (٤٤) الْآيَةَ. وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ نَقَلُوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ سَكَتُوا عَنْ بَيَانِ هَذَا، مَنْ سَلَّمَ مِنْهُمُ الْقَوْلَ بِالنَّسْخِ وَمَنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ؟ .

وَحَكَى الرَّازِيُّ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِذْنَ فِي مَاذَا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ فَأَذِنَ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ فِي الْخُرُوجِ فَأَذِنَ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْهُ صَوَابًا؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا عُيُونًا لِلْمُنَافِقِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانُوا يُثِيرُونَ الْفِتَنَ وَيَبْغُونَ الْغَوَائِلَ؛ فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا كَانَ خُرُوجُهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>