للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ

هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَيَانِ سَبَبِ النِّفَاقِ، وَمُصَانَعَةِ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْخَوْفُ وَبَيَانُ حَالِهِمْ فِيهِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ كَذِبًا وَبَاطِلًا أَنَّهُمْ لَمِنْكُمْ فِي الدِّينِ وَالْمِلَّةِ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ أَيْ: لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ، بَلْ هُمْ أَهْلُ شَكٍّ وَنِفَاقٍ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يَقُولُ: وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَخَافُونَكُمْ، فَهُمْ خَوْفًا مِنْكُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ إِنَّهُمْ مِنْكُمْ؛ لِيَأْمَنُوا فِيكُمْ فَلَا يُقْتُلُوا اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرَقَ بِالتَّحْرِيكِ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَفْرُقُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَإِدْرَاكِهِ - أَوْ هُوَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: تَفَرُّقُ الْقَلْبِ مِنَ الْخَوْفِ، وَاسْتِعْمَالُ الْفَرَقِ فِيهِ كَاسْتِعْمَالِ الصَّدْعِ وَالشَّقِّ فِيهِ، وَفِعْلُهُ بِوَزْنِ فَرَحَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمُ الَّذِي فَرَقَ قُلُوبَهُمْ وَمَزَّقَهَا. ثُمَّ بَيَّنَ سُوءَ حَالِهِمْ فِي هَذَا الْفَرَقِ بِقَوْلِهِ: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ الْمَلْجَأُ: الْمَكَانُ الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْخَائِفُ؛ لِيَعْتَصِمَ بِهِ مِنْ حِصْنٍ أَوْ قَلْعَةٍ أَوْ جَزِيرَةٍ فِي بَحْرٍ أَوْ قُنَّةٍ فِي جَبَلٍ، وَالْمَغَارَاتُ: جَمْعُ مَغَارَةٍ وَهِيَ الْغَارُ فِي الْجَبَلِ، وَتَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْغَارِ، وَالْمُدَّخَلُ بِالتَّشْدِيدِ (مُفْتَعَلٌ مِنَ الدُّخُولِ) السِّرْبُ فِي الْأَرْضِ يَدْخُلُهُ الْإِنْسَانُ بِمَشَقَّةٍ، وَالْجِمَاحُ: السُّرْعَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَتَعَسَّرُ مُقَاوَمَتُهَا أَوْ تَتَعَذَّرُ. يَقُولُ: إِنَّهُمْ لِشِدَّةِ كُرْهِهِمْ لِلْقِتَالِ مَعَكُمْ وَلِمُعَاشَرَتِكُمْ، وَلِشِدَّةِ رُعْبِهِمْ مِنْ ظُهُورِ نِفَاقِهِمْ لَكُمْ، يَتَمَنَّوْنَ الْفِرَارَ مِنْكُمْ، وَالْمَعِيشَةَ فِي مَضِيقٍ مِنَ الْأَرْضِ يَعْتَصِمُونَ بِهِ مِنِ انْتِقَامِكُمْ، بِحَيْثُ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً يَلْجَؤُونَ إِلَيْهِ، أَوْ مَغَارَاتٍ يَغُورُونَ فِيهَا، أَوْ مُدَّخَلًا يَنْدَسُّونَ وَيَنْجَحِرُونَ فِيهِ، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ - أَيْ: إِلَى مَا يَجِدُونَهُ مِمَّا ذُكِرَ - وَهُمْ يُسْرِعُونَ مُتَقَحِّمِينَ

كَالْفَرَسِ الْجَمُوحِ لَا يَرُدُّهُمْ شَيْءٌ. وَهَذَا الْوَصْفُ مَنْ أَبْلَغِ مُبَالَغَةِ الْقُرْآنِ فِي تَصْوِيرِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَتَجَلَّى لِلْفَهْمِ وَالْعِبْرَةِ بِدُونِهَا، فَتَصَوَّرْ شُخُوصَهُمْ وَهُمْ يَعْدُونَ بِغَيْرِ نِظَامٍ، يَلْهَثُونَ كَمَا تَلْهَثُ الْكِلَابُ، يَتَسَابَقُونَ إِلَى تِلْكَ الْمَلَاجِئِ مِنْ مَغَارَاتٍ وَمُدَّخَلَاتٍ، فَيَتَسَلَّقُونَ إِلَيْهَا، أَوْ يَنْدَسُّونَ فِيهَا. فَكَذَلِكَ كَانَ تَصَوُّرُهُمْ عِنْدَ مَا سَمِعُوا الْآيَةَ فِي وَصْفِهِمْ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَقَامُوا بَيْنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>