للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَهَكَذَا الْخَوْفُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ - وَأَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ - ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ فَسَّرَهُ بِالْخَوْفِ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ لَا مِنْ مَصَائِبِ الِامْتِحَانِ، فَهُوَ نِعْمَةٌ تُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ لَا مُصِيبَةٌ يُطْلَبُ الصَّبْرُ عَلَيْهَا أَوْ فِيهَا لِأَجْلِ تَهْوِينِ خَطْبِهَا، وَأَمَّا الْجُوعُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ مَا يَكُونُ مِنَ الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْمَسُوقَةِ لِبَيَانِ مَا يُلَاقِي الْمُؤْمِنُونَ فِي سَبِيلِ الْإِيمَانِ وَلَا وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَحَدُهُمْ يُؤْمِنُ فَيُفْصَلُ مِنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَيَخْرُجُ فِي الْغَالِبِ صِفْرَ الْيَدَيْنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْفَقْرُ عَامًا فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَوَّلِ عَهْدِهِمْ إِلَى مَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَمِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْ نَقْصِ الْأَمْوَالِ وَهِيَ الْأَنْعَامُ الَّتِي كَانَتْ مُعْظَمَ مَا يَتَمَوَّلُهُ الْعَرَبُ، وَأَمَّا الثَّمَرَاتُ فَهِيَ عَلَى أَصْلِهَا، وَكَانَ مُعْظَمُهَا ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ. وَقِيلَ: هِيَ الْوَلَدُ ثَمَرُ الْقَلْبِ، كَمَا يَقُولُونَ فِي الْمَجَازِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ بَلَغَ مِنْ جُوعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ كَانُوا يَتَبَلَّغُونَ بِتَمَرَاتٍ يَسِيرَةٍ وَلَا سِيَّمَا فِي غَزْوَتَيِ الْأَحْزَابِ وَتَبُوكَ. وَأَمَّا نَقْصُ الْأَنْفُسِ فَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْمَوَتَانِ مِنَ اجْتِوَاءِ الْمَدِينَةِ، فَقَدْ كَانَتْ عِنْدَ هِجْرَتِهِمْ إِلَيْهَا بَلَدَ وَبَاءٍ وَحُمَّى ثُمَّ حَسُنَ مَنَاخُهَا.

ثُمَّ وَصَفَ الصَّابِرِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْبِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أَيْ: قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ مُعَبِّرِينَ بِهِ عَنْ حَالِهِمْ وَمُقْتَضَى إِيمَانِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ مُجَرَّدَ النُّطْقِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوهَا حِفْظًا، أَوْ يَلْفِظُوهَا لَفْظًا، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ لَهَا مَعْنًى، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّلَبُّسُ بِمَعْنَاهَا وَالتَّحَقُّقُ

فِي الْإِيمَانِ بِأَنَّهُمْ مِنْ خَلْقِ اللهِ وَمُلْكِ اللهِ وَإِلَى اللهِ يَرْجِعُونَ، فَهُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا سَبَقَتْ بِهِ الْحِكْمَةُ، وَارْتَضَاهُ النِّظَامُ الْإِلَهِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسُّنَّةِ، بِحَيْثُ يَنْطَلِقُ اللِّسَانُ بِالْكَلِمَةِ بِدَافِعِ الشُّعُورِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَتَمَكُّنِهِ مِنَ النَّفْسِ، فَأَصْحَابُ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَالشُّعُورِ هُمُ الْجَدِيرُونَ بِالصَّبْرِ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ الْجَزَعُ نُفُوسَهُمْ، وَلَا تُقْعِدُ الْمَصَائِبُ هِمَمَهُمْ، بَلْ تَزِيدُهُمْ ثَبَاتًا وَمُثَابَرَةً فَيَكُونُونَ هُمُ الْفَائِزِينَ.

وَلَا يُنَافِي الصَّبْرَ وَالتَّثَبُّتَ مَا يَكُونُ مِنْ حُزْنِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ نُزُولِ الْمُصِيبَةِ ; بَلْ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ، وَلَوْ فَقَدَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الرَّحْمَةَ لَكَانَ قَاسِيًا لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَإِنَّمَا الْجَزَعُ الْمَذْمُومُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى تَرْكِ الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ وَالْأَخْذِ بِعَادَاتٍ وَأَعْمَالٍ مَذْمُومَةٍ ضَارَّةٍ يَنْهَى عَنْهَا الشَّرْعُ وَيَسْتَقْبِحُهَا الْعَقْلُ، كَمَا نُشَاهِدُ مِنْ جَمَاهِيرِ النَّاسِ فِي الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ((أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكَى عِنْدَمَا حَضَرَ وَلَدَهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَوْتُ، وَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَيْتَنَا عَنْ ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَ أَنَّهَا الرَّحْمَةُ، وَقَالَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِالْبَلَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>