للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(٤٣: ٣٧) وَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٢٩: ٥٨) وَقَالَ: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ (٣٩: ٢٠) .

وَأَمَّا إِضَافَةُ هَذِهِ الْجَنَّاتِ إِلَى (عَدْنٍ) فَقَدْ تَعَدَّدَتْ فِي التَّنْزِيلِ بِمَا جَاوَزَ جَمْعَ الْقِلَّةِ، وَمَعْنَى الْعَدْنِ فِي اللُّغَةِ الْإِقَامَةُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالثَّبَاتُ، يُقَالُ: عَدَنَ فِي مَكَانِ كَذَا

(مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَقَعَدَ) أَقَامَ وَثَبَتَ فِيهِ، وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ لِمُسْتَقِرِّ الْجَوَاهِرِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَاسِ وَغَيْرِهَا. وَفَسَّرُوهَا بِقَوْلِهِمْ: جَنَّاتُ إِقَامَةٍ وَخُلُودٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّةُ الْخُلْدِ (٢٥: ١٥) وَجَنَّةُ الْمَأْوَى (٥٣: ١٥) وَلَكِنَّ هَاتَيْنِ وَرَدَتَا بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ مُضَافًا إِلَى مَعْرِفَةٍ، فَهُمَا اسْمَانِ لِدَارِ النَّعِيمِ كَلَفْظِ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ يُونُسَ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٠: ٩) وَأَمَّا جَنَّاتِ عَدْنٍ فَهُوَ جَمْعٌ أُضِيفَ إِلَى هَذَا اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ (عَدْنٍ) فَجَعَلَهُ بِمَعْنَى إِقَامَةٍ - كَمَا قِيلَ - يَقْتَضِي جَعْلَهُ مُكَرَّرًا مَعَ قَوْلِهِ قَبْلُ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ; لِأَنَّهَا وُصِفَتْ بِالْإِقَامَةِ وَبِالْخُلُودِ فِيهَا أَيْضًا، عَلَى مَا فِي تَنْكِيرِ عَدْنٍ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الضَّعْفِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ عَدْنٍ مَعْرِفَةً، وَمَعْنَى التَّرْكِيبِ: فِي جَنَّاتِ الْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ (عَدْنٍ) .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يُفَسِّرُ هَذَا، وَهُوَ ذِكْرُ جَنَّةِ عَدْنٍ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ، وَفِي بَعْضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَكَانٌ أَوْ مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ دَارِ النَّعِيمِ كَالْفِرْدَوْسِ الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ أَوْ أَعْلَاهَا، وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي تَجَلِّي الرُّؤْيَةِ، الَّتِي هِيَ أَعْلَى النَّعِيمِ وَأَكْمَلُ الْمَعْرِفَةِ.

رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ (وَهُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ) فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٥٥: ٤٦) وَقَوْلُهُ بَعْدَ وَصْفِهِمَا: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٥٥: ٦٢) عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ فِضَّةٍ، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا عَدْنٌ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهِمْ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا أَنَّ جَنَّةَ عَدْنٍ مَكَانٌ سَامٍ فِي طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِ الْجَنَّةِ ; لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى نَكِرَةٍ، وَمَجْمُوعُ الْحَدِيثِ وَالْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدْنًا مَنْزِلٌ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَنَّ فِيهِ جَنَّاتٍ أَيْ بَسَاتِينَ مُتَعَدِّدَةً، لِكُلِّ مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ مِنْهَا جَنَّتَانِ، وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ وَهِيَ كَالْأَرْبَعِ الْمَوْصُوفَةِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>