للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ هَذَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِجِهَادِهِمْ كَالْكَفَّارِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ بِالْقَوْلِ، وَهَمُّوا بَشَرِّ مَا يُغْرِي بِهِ مِنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْفَتْكُ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدْ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْبَأَهُ بِأَنَّهُمْ سَيُنْكِرُونَهُ إِذَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى إِنْكَارِهِمْ لِيُصَدَّقُوا كَدَأْبِهِمُ الَّذِي سَبَقَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً (٥٨: ١٦) وَكَانُوا يَحْلِفُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيُرْضُوهُمْ، وَكَانُوا يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ، وَفِي رَسُولِهِ بِمَا هُوَ اسْتِهْزَاءٌ خَرَجُوا بِهِ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَدْعُونَهُ إِلَى مَحْظُورِ الْكُفْرِ الَّذِي يَكْتُمُونَهُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِسْنَادُ قَوْلٍ آخَرَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَيْهِمْ يُنَافِي الْإِسْلَامَ الظَّاهِرَ، فَضْلًا عَنِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ، وَالْمَعْنَى: يَحْلِفُونَ بِاللهِ أَنَّهُمْ مَا قَالُوا تِلْكَ الْكَلِمَةَ الَّتِي أُسْنِدَتْ إِلَيْهِمْ، وَاللهُ تَعَالَى يُكَذِّبُهُمْ وَيَثْبُتُ بِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ وَ " قَدْ " أَنَّهُمْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَلِمَةَ الَّتِي نَفَوْهَا وَأَثْبَتَهَا ; لِأَنَّهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ فِي نَصِّ الْكِتَابِ فَيَتَعَبَّدُ الْمُسْلِمُونَ بِتِلَاوَتِهَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي تَعْيِينِهَا وَالْقَائِلِينَ لَهَا، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعُرْوَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَفِيهِ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ (٦٥) وَأَشْهَرُهَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ الْجُلَاسُ (بِضَمِّ الْجِيمِ) بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ لَيْلَةً فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: وَاللهِ لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَسَمِعَهُ غُلَامٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ - وَكَانَ رَبِيبَهُ - فَقَالَ: أَيْ عَمِّ تُبْ إِلَى اللهِ، وَجَاءَ

الْغُلَامُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخْبَرَهُ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَيْهِ فَجَعَلَ يَحْلِفُ وَيَقُولُ: وَاللهِ مَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ الْغُلَامُ: بَلَى وَاللهِ لَقَدْ قُلْتَهُ فَتُبْ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ فَيَجْعَلَنِي مَعَكَ مَا قُلْتُهُ، فَجَاءَ الْوَحْيُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَكَتُوا فَلَا يَتَحَرَّكُونَ إِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ، فَرُفِعَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ إِلَى قَوْلِهِ: يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ فَقَالَ: قَدْ قُلْتُهُ وَقَدْ عَرَضَ اللهُ عَلَيَّ التَّوْبَةَ فَأَنَا أَتُوبُ، فَقُبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَقُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فِي الْإِسْلَامِ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَعْطَاهُ دِيَتَهُ فَاسْتَغْنَى بِذَلِكَ، وَكَانَ هَمَّ أَنْ يَلْحَقَ بِالْمُشْرِكِينَ وَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلْغُلَامِ: " وَعَتْ أُذُنُكَ " وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَخَذَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِأُذُنِ عُمَيْرٍ فَقَالَ لَهُ: " يَا غُلَامُ وَعَتْ أُذُنُكَ وَصَدَّقَكَ رَبُّكَ " اهـ. وَقَدْ أَشَارَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ إِلَى ضَعْفِ حَدِيثِ جُلَاسَ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَتَابَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ لَمْ يَحْضُرْ غَزْوَةَ تَبُوكَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>