للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي سَبِيلِ الْحَقِّ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ، فَكَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يُؤَكِّدُ تِلْكَ الْبِشَارَةَ وَيُقَوِّي ذَلِكَ الْأَمَلَ، فَذَكَرَ شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ هِيَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَكَانَ ذِكْرُهَا تَصْرِيحًا ضِمْنِيًّا بِأَنْ سَيَأْخُذُونَ مَكَّةَ وَيُقِيمُونَ مَنَاسِكَ إِبْرَاهِيمَ فِيهَا، وَتَتِمُّ بِذَلِكَ لَهُمُ النِّعْمَةُ وَالْهِدَايَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مُنْقَطِعَةً عَنِ السِّيَاقِ السَّابِقِ لِإِفَادَةِ حُكْمٍ جَدِيدٍ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ كَمَا تُوُهِّمَ ; بَلْ هِيَ مِنْ تَتِمَّةِ الْمَوْضُوعِ وَمُرْتَبِطَةٌ بِهِ أَشَدَّ الِارْتِبَاطِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ

تَأْكِيدٌ لِلْبِشَارَةِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْحُكْمَ الَّذِي فِيهَا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ الَّذِي أَحْيَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِلَّتَهُ وَجُعِلَتِ الصَّلَاةُ إِلَى قِبْلَتِهِ ; كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَلْوِيَنَّكُمْ قُوَّةُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ، وَكَثْرَةُ الْأَصْنَامِ عَلَى الْكَعْبَةِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى تَطْهِيرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَإِحْيَاءِ تِلْكَ الشَّعَائِرِ الْعِظَامِ، كَمَا لَا يَلْوِيَنَّكُمْ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ تَقَوُّلُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَا زِلْزَالُ مَرْضَى الْقُلُوبِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، بَلْ ثِقُوا بِوَعْدِ اللهِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ.

الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ: جَبَلَانِ، أَوْ عَلَمَا جَبَلَيْنِ بِمَكَّةَ وَالْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا ٧٦٠ ذِرَاعًا وَنِصْفُ، وَالصَّفَا تُجَاهَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَقَدْ عَلَتْهُمَا الْمَبَانِي وَصَارَ مَا بَيْنَهُمَا سُوقًا. وَالشُّعَيْرَةُ وَالشِّعَارُ وَالشِّعَارَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْمَكَانِ أَوِ الشَّيْءِ الَّذِي يُشْعِرُ بِأَمْرٍ لَهُ شَأْنٌ، وَأُطْلِقَ عَلَى مَعَالِمِ الْحَجِّ وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ وَتُسَمَّى مَشَاعِرُ ((جَمْعُ مَشْعَرٍ)) وَعَلَى الْعَمَلِ الِاجْتِمَاعِيِّ الْمَخْصُوصِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ وَنُسُكٌ، فَفِي آيَةٍ أُخْرَى (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ) (٥: ٢) وَهِيَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَمَعَالِمُهُ، وَمِنْهُ إِشْعَارُ الْهَدْيِ وَهُوَ جَرْحُ مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الْإِبِلِ فِي صَفْحَةِ سَنَامِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ نُسُكٌ، وَيُشْعَرُ الْبَقَرُ أَيْضًا دُونَ الْغَنَمِ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ فِي اللُّغَةِ شِعَارُ الْحَرْبِ وَهُوَ مَا يَتَعَارَفُ بِهِ الْجَيْشُ. قَالَ شَيْخُنَا: وَرَمَى رَجُلٌ جَمْرَةً فَأَصَابَتْ جَبْهَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ رَجُلٌ: شَعَرْتَ جَبْهَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، يُرِيدُ جَرَحْتَ، سُمِّيَ الْجُرْحُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ رَجُلٌ لِهْبِيٌّ: سَيُقْتَلُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ مَا قَالَ.

فَأَمَّا كَوْنُ الْمَوَاضِعِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ عَلَامَاتِ دِينِ اللهِ أَوْ أَعْلَامِ دِينِهِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَنَاسِكِ وَالْأَعْمَالِ شَعَائِرَ وَعَلَامَاتٍ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَامَ بِهَا عَلَامَةٌ عَلَى الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا. فَالشَّعَائِرُ إِذَنْ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي فِيهَا تَعَبُّدٌ لِلَّهِ تَعَالَى ; وَلِذَلِكَ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الشَّعَائِرِ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ لِأَنَّهَا تَعَبُّدِيَّةٌ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الشَّعَائِرُ أَعْمَالُ

<<  <  ج: ص:  >  >>