للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْمَصَابِيحِ عِنْدَهَا، بَلْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عِبَادَتُهَا بِالطَّوَافِ حَوْلَهَا، وَدُعَاءِ أَصْحَابِهَا وَالنَّذْرِ لَهُمْ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ، حَتَّى فِي الشَّدَائِدِ وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ. بَلْ كَانُوا فِيهِ يُخْلِصُونَ الدُّعَاءَ لِلَّهِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.

بَعْدَ هَذَا الْإِرْشَادِ إِلَى مَا يَقْتَضِي الْإِحْسَانُ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ وَتَحَرِّي مَرْضَاتِهِ وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ وَجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْخَيْرِ لِعِبَادِهِ بِهَا - ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ جَزَاءِ الْآخِرَةِ عَلَيْهَا، فَقَالَ: (وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فِي الدُّنْيَا مِمَّا كَانَ مَشْهُودًا لِلنَّاسِ مِنْهُ، وَمَا كَانَ غَائِبًا عَنْ عِلْمِهِمْ مِنْهُ وَمِنْ نِيَّاتِكُمْ فِيهِ، يُنَبِّئُكُمْ بِهِ عِنْدَ الْحِسَابِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ، أَوْ سُوءِ الْعَذَابِ.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .

هَذِهِ الْآيَةُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) (١٠٢) وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُتَخَلِّفِينَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَهُمْ أَكْثَرُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَقْسَامِهِمْ وَمَنِ اعْتَذَرَ وَمَنْ لَمْ يَعْتَذِرْ مِنْهُمْ وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ قِسْمَانِ (أَحَدُهُمَا) الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَتَابُوا وَزَكَّوْا تَوْبَتَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَطَلَبِ دُعَاءِ الرَّسُولِ

وَاسْتِغْفَارِهِ فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَ (ثَانِيهِمَا) الَّذِينَ حَارُوا فِي أَمْرِهِمْ وَلَمْ يَعْتَذِرُوا لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ، وَأَرْجَئُوا تَوْبَتَهُمْ فَأَرْجَأَ اللهُ الْحُكْمَ الْقَطْعِيَّ فِي أَمْرِهِمْ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي يَأْتِي بَيَانُهَا قَرِيبًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ: وَهُمُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا: أَيْ عَنِ التَّوْبَةِ، وَهُمْ مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَعَدُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَعَدَ كَسَلًا وَمَيْلًا إِلَى الدَّعَةِ وَالْحَظِّ وَطَيِّبِ الثِّمَارِ وَالظِّلَالِ لَا شَكًّا وَنِفَاقًا، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي كَمَا فَعَلَ أَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَطَائِفَةٌ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ فَنَزَلَتْ تَوْبَةُ أُولَئِكَ قَبْلَ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ، وَأُرْجِئَ هَؤُلَاءِ عَنِ التَّوْبَةِ حَتَّى نَزَلَتْ آيَتَا التَّوْبَةِ الْآتِيَتَيْنِ (١١٧، ١١٨) (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) أَيْ وَثَمَّ أُنَاسٌ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ مُؤَخَّرُونَ لِحُكْمِ اللهِ فِي أَمْرِهِمْ، أَوْ لِأَمْرِهِ لِرَسُولِهِ بِمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (مُرْجَوْنَ) بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ لِلتَّخْفِيفِ، وَالْآخَرُونَ (مُرْجَئُونَ) بِالْهَمْزَةِ عَلَى الْأَصْلِ، فَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَرْجَأَهُ إِذَا أَخَّرَهُ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ رَجَاهُ يَرْجُوهُ وَأَرْجَأَهُ يُرْجِئُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا الْإِرْجَاءَ كَانَ يَوْمًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>