للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي خَبَرِ أَبِي عَامِرٍ الْفَاسِقِ هَذَا أَنَّهُ مَا زَالَ يُقَاتِلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى يَوْمِ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ يَئِسَ وَخَرَجَ هَارِبًا إِلَى الشَّامِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَنِ اسْتَعِدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَسِلَاحٍ، وَابْنُوا لِي مَسْجِدًا فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مِلْكِ الرُّومِ فَآتٍ بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

(لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) هَذَا نَهْيٌ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّبَعِ لَهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ مُؤَكَّدٌ بِلَفْظِ الْأَبَدِ الَّذِي يَسْتَغْرِقُ الزَّمَنَ الْمُسْتَقْبَلَ، وَتَفْسِيرُ الْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ هُنَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَعْهُودٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (٢: ٢٣٨) وَقَوْلِهِ: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) (٧٣: ٢) وَالنَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ الْمُطْلَقِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ، وَلَكِنَّهَا

هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالنَّهْيِ لِطَلَبِهِمْ لَهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمَسْجِدِ لِلْقَسَمِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ. وَالتَّأْسِيسُ: وَضْعُ الْأَسَاسِ الْأَوَّلِ لِلْبِنَاءِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ وَيُرْفَعُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الْقَصْدُ وَالْغَرَضُ مِنَ الْبِنَاءِ، وَالتَّقْوَى: الِاسْمُ الْجَامِعُ لِمَا يُرْضِي اللهَ وَيَقِي مِنْ سُخْطِهِ، أَيْ: إِنَّ مَسْجِدًا قُصِدَ بِبِنَائِهِ - مُنْذُ وُضِعَ أَسَاسُهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ - تَقْوَى اللهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَجَمْعِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ عَلَى مَا يُرْضِيهِ مِنَ التَّعَارُفِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى - هُوَ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُصَلِّيًا بِالْمُؤْمِنِينَ، عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا ذَلِكَ الْمَسْجِدِ الَّذِي وُضِعَ أَسَاسُهُ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَرْبَعَةِ الْخَبِيثَةِ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ - مَسْجِدُ قُبَاءَ، وَقَدْ صَحَّ فِي أَحَادِيثَ رَوَاهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْهُ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مَسْجِدُهُ الَّذِي فِي الْمَدِينَةِ، فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ أَخَذَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: ((هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا)) وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ عَنْهُ وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: ((هُوَ مَسْجِدِي هَذَا)) . وَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْمَسْجِدَيْنِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ بَنَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَضَعَ أَسَاسَهُ عَلَى التَّقْوَى مَنْ أَوَّلِ يَوْمٍ شَرَعَ فِيهِ بِبِنَائِهِ أَوْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ وُجِدَ فِي مَوْضِعِهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ: (مِنْ) تَدْخُلُ عَلَى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.

(فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) هَذِهِ جُمْلَةٌ وُصِفَ بِهَا الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى تُؤَكِّدُ تَرْجِيحَ الْقِيَامِ مَعَ أَهْلِهِ الْمُطَهِّرِينَ فِي مُقَابِلِ أَهْلِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَهُمْ رِجْسٌ.

وَالْمَعْنَى: فِيهِ رِجَالٌ يَعْمُرُونَهُ بِالِاعْتِكَافِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللهِ وَتَسْبِيحِهِ فِيهِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بِذَلِكَ مَنْ كُلِّ مَا يَعْلَقُ بِأَنْفُسِهِمْ مَنْ دَرَنِ الْآثَامِ، أَوِ التَّقْصِيرِ فِي إِقَامَةِ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، كَمَا تَطَهَّرَ الْمُتَخَلِّفُونَ مِنْهُمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِالتَّوْبَةِ وَالصَّدَقَاتِ، وَمِنْ لَوَازِمِ عِمَارَتِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْعُكُوفِ فِيهِ: طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ الْحِسِّيَّةُ، وَطَهَارَةُ الْوُضُوءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>