للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا وَيَغْفُلُونَ عَنْ حَالِهِمْ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُمْ عَامًا بَعْدَ عَامٍ مِنْ تَكْرَارِ الْفُتُونِ وَالِاخْتِبَارِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ اسْتِعْدَادُ الْأَنْفُسِ لِلْإِيمَانِ أَوِ الْكُفْرِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ،

كَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ نَصْرِ اللهِ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَوُقُوعِ مَا أَنْذَرَهُمْ، وَمِنْ إِنْبَاءِ اللهِ رَسُولَهُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَفَضِيحَتِهِمْ بِمَا يُسِرُّونَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا فَصَّلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذَكَرَ بَعْضَهُ فِي غَيْرِهَا - وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ ((أَوَلَا تَرَوْنَ)) عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَدْ يُرَوِّعُهُمُ الْخَبَرُ الْمُؤَكَّدُ وُقُوعُهُ بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَتَعْجَبُونَ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ السُّوأَى وَلَا تَرَوْنَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَيْهَا مِنْ فِتْنَتِهِمْ وَابْتِلَائِهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ، بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَذْهَبَ بِشَكِّهِمْ وَيَشْفِيَ مَرَضَ قُلُوبِهِمْ، مِنْ آيَاتِ اللهِ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ: (ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أَيْ ثُمَّ تَمُرُّ الْأَعْوَامُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَتُوبُونَ مِنْ نِفَاقِهِمْ، وَلَا يَتَّعِظُونَ بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِمَّا أَنْذَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ بُرْهَانٍ عَلَى انْطِفَاءِ نُورِ الْفِطْرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ أَقْوَى مِنْ هَذَا؟ إِنْ كَانَ وَرَاءَهُ بُرْهَانٌ أَقْوَى مِنْهُ فَهُوَ أَنَّهُمْ يَفِرُّونَ مِنَ الْعِلَاجِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْفِيَهُمْ مِنْ مَرَضِ قُلُوبِهِمْ وَهُوَ مَا أَكَّدَ بِهِ مَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ:

(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَكُونُونَ فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ نُزُولِ سُورَةٍ، وَمَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لَهَا، وَمَا قَبْلَهَا فِي بَيَانِ حَالِهِمْ إِذَا بَلَغَهُمْ نُزُولُ سُورَةٍ مِنْ حَيْثُ الْبَحْثِ عَنْ تَأْثِيرِهَا، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْأُولَى تَشْمَلُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَمَنْ بَلَّغَ عَنْهُ، وَالْعِبْرَةُ بِمَوْضُوعِهَا لَا بِطَرِيقَةِ الْعِلْمِ بِهَا، وَإِنَّ هَذِهِ أَدَلُّ عَلَى رُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَعَدَمِ الطَّمَعِ فِي رُجُوعِهِمْ عَنْهُ، بِإِثْبَاتِهَا أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ سَمَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْهِدَايَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَمْنَعُونَهُ مِنْ تِلَاوَتِهِ عَلَى النَّاسِ لِئَلَّا يَهْتَدُوا بِسَمَاعِهِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِسْكَاتِهِ أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِهِ وَلَغَوْا فِيهِ. وَمَنَعُوا صَاحِبَهُ الصِّدِّيقَ أَيْضًا مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ مِنْ مَسْجِدِهِ الْخَاصِّ لَمَّا رَأَوُا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ يَجْتَمِعُونَ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْهُ وَيَتَأَثَّرُونَ بِخُشُوعِهِ فِيهِ. يَقُولُ: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ وَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ تَسَارَقُوا النَّظَرَ، وَتَغَامَزُوا بِالْعُيُونِ، عَلَى حِينِ تَخْشَعُ أَبْصَارُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَنْحَنِي رُءُوسُهُمْ، وَتَجِبُ

قُلُوبُهُمْ، وَتَرَامَقُوا بِالْعُيُونِ يَتَشَاوَرُونَ فِي الِانْسِلَالِ مِنَ الْمَجْلِسِ خُفْيَةً لِئَلَّا يَفْتَضِحُوا بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْوَحْيِ، قَائِلًا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِالْإِشَارَةِ أَوِ الْعِبَارَةِ: (هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أَيْ مِنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ إِذَا نَحْنُ انْصَرَفْنَا كَارِهِينَ لِسَمَاعِهَا (ثُمَّ انْصَرَفُوا) يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا إِلَى مَجَامِعِهِمُ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِـ (ثُمَّ) لِبَيَانِ تَرَاخِي فِعْلِهِمْ عَنْ وَقْتِ قَوْلِهِمْ، إِلَى سُنُوحِ فُرْصَةِ الْغَفْلَةِ عَنْهُمْ وَلَوْ أَفْرَادًا، فَكُلَّمَا لَمَحَ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَفْلَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ انْصَرَفَ (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ وَالْخَبَرَ، لِأَنَّ مَضْمُونَهَا النِّهَائِيَّ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>