للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اللَّازِمَةِ، لِيَتَذَكَّرَ أُولَئِكَ الضَّالُّونَ الْكَاتِمُونَ لِبَيِّنَاتِ اللهِ، الْمُؤْثِرُونَ عَلَيْهَا آرَاءَ رُؤَسَائِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ ثِقَةً بِهِمْ، وَاعْتِمَادًا عَلَى شَفَاعَتِهِمْ، أَنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَيَعْلَمُوا وَجْهَ خَطَئِهِمْ فِي كِتْمَانِ الْحَقِّ وَمُعَادَاةِ أَهْلِهِ عِنَادًا مِنَ الرُّؤَسَاءِ، وَتَقْلِيدًا مِنَ الْمَرْءُوسِينَ. فَقَالَ: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أَيْ: وَإِلَهُكُمُ الْحَقُّ الْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ مُسْتَحِقٌّ لَهَا إِلَّا هُوَ، فَلَا تُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا. وَالشِّرْكُ بِهِ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) يَتَعَلَّقُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمَرْءُ أَنَّ فِي الْخَلْقِ مَنْ يُشَارِكُهُ تَعَالَى أَوْ يُعِينُهُ فِي أَفْعَالِهِ، أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى بَعْضِهَا وَيَصُدُّهُ عَنْ بَعْضٍ بِشَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ لِأَجْلِ قُرْبِهِ مِنْهُ، كَمَا يَكُونُ مِنْ بِطَانَةِ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ وَحَوَاشِيهِمْ وَحُجَّابِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ، فَهُوَ يَتَوَجَّهُ إِلَى هَذَا الْمُؤَثِّرِ عِنْدَ اللهِ بِزَعْمِهِ عِنْدَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ فَيَدْعُوهُ مَعَهُ، وَقَدْ يَدْعُوهُ مِنْ دُونِهِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ لِكَشْفِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ أَعْيَتْهُ أَسْبَابُهُمَا وَهَذَا مُخُّ الْعِبَادَةِ.

(وَثَانِيهِمَا) يَتَعَلَّقُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ إِسْنَادُ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَهُ، أَوْ أَنْ تُؤْخَذَ أَحْكَامُ الدِّينِ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ عَنْ غَيْرِهِ ; أَيْ: غَيْرِ كِتَابِهِ وَوَحْيِهِ الَّذِي بَلَّغَهُ عَنْهُ رُسُلُهُ بِحُجَّةِ أَنَّ مَنْ يُأْخَذُ عَنْهُمُ الدِّينُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْوَحْيِ أَعْلَمُ بِمُرَادِ اللهِ فَيُتْرَكُ الْأَخْذَ مِنَ الْكِتَابِ لِرَأْيِهِمْ وَقَوْلِهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (٩: ٣١) كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالدِّينِ أَنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ مَا نَزَّلَهُ اللهُ وَلَا يَكْتُمُوهُ، لَا أَنْ يَزِيدُوا فِيهِ أَوْ يَنْقُصُوا مِنْهُ، كَمَا زَادَ أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ كُلُّهُمْ عِبَادَاتٍ وَأَحْكَامًا كَثِيرَةً زَائِدَةً عَلَى الْوَحْيِ أَوْ مُخَالِفَةً لَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ لِأَجْلِهَا دُونَ الْعَكْسِ، وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ كَذَلِكَ (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) أَيِ: الْكَامِلُ الرَّحْمَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرِضَ الْعَبْدُ عَنْ أَسْبَابِ رَحْمَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى رَحْمَةِ سِوَاهُ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَهُ، فَحَسْبُ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِالتَّصَدِّي لَهَا عَنْ رَجَاءِ سِوَاهَا وَإِلَّا كَانَ مِنَ الْخَائِبِينَ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَبَّهَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي يَرْقُبُونَهَا مِنْ شِرْكِهِمْ إِنَّمَا هِيَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ وَحْدَهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا أَنْتُمْ تَرَكْتُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ لِأَجْلِهِ

تَعَالَى فَهُوَ بِتَفَرُّدِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ يَكْفِيكُمْ كُلَّ ضَرَرٍ تَخَافُونَهُ، وَيُعْطِيكُمْ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ كُلَّ مَا تَرْجُونَهُ، فَإِنَّ بِيَدِهِ مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكُلُّ مَا تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ دُونِهِ فَلَيْسَ مَحَلًّا لِلِاعْتِمَادِ ; بَلِ اعْتِمَادُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيلِ الشِّرْكِ فَيَجِبُ أَنْ تَطْرَحُوهُ جَانِبًا، وَتَعْتَقِدُوا أَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْمَنَافِعِ وَالْقَادِرُ عَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ وَإِيقَاعِهَا هُوَ وَاحِدٌ لَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِهِ، وَلَا أَوْسَعَ مَنْ رَحِمْتِهِ، وَإِنَّمَا أَكَّدَ أَمْرَ الْوَحِدَةِ هَذَا التَّأْكِيدَ تَحْذِيرًا مَنْ طُرُقِ الشِّرْكِ الْخَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا أَسَاسُ

<<  <  ج: ص:  >  >>