للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَرْجِيحِهِ: إِنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَاضِي هُنَاكَ، وَإِنَّمَا آثَرَ الْمُضَارِعَ عَلَى الْمَاضِي لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِمْرَارِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّهَا مِنْ دَأْبِهِمْ وَعَادَتِهِمْ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنِ اسْتِحْضَارِ صُورَتِهَا الشَّنِيعَةِ اهـ. وَقَدْ أَخْطَأَ فِي التَّرْجِيحِ وَبَاعَدَ، وَإِنْ سَدَّدَ فِي التَّعْلِيلِ وَقَارَبَ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمَعْنَى الْجَامِعَ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ فِي هَذَا

السِّيَاقِ حِكَايَةُ أَنْوَاعِ جُحُودِهِمْ فِي جُمْلَتِهَا، وَأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ فِي هَذِهِ وَمَا قَبْلَهَا وَفِيمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) (٣٨) وَقَوْلِهِ: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (٤٨) إِنَّمَا هُوَ لِمَا يَتَكَرَّرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي الْجُحُودِ؛ فَإِنَّ اقْتِرَاحَ نُزُولِ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ عَلَيْهِ قَدْ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ، وَذُكِرَ فِي سُورٍ مِنْهَا مَا نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ (يُونُسَ) وَمِنْهَا مَا نَزَلَ بَعْدَهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ بِشَوَاهِدِهِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ هَكَذَا.

وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ قَدْ قَالُوا وَلَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةٌ كَوْنِيَّةٌ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُحَدِّثُنَا عَنْهُمْ، حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ هَذَا الِاقْتِرَاحَ هُنَا مُجْمَلًا وَأَجَابَ عَنْهُ جَوَابًا مُجْمَلًا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ سَبَقَ مُفَصَّلًا فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا كُفَّارُ الْإِفْرِنْجِ وَتَلَامِيذُهُمْ مِنْ مَلَاحِدَةِ مِصْرَ، فَقَالُوا فِي مِثْلِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي مَكَّةَ يَفِرُّ مِنْ مُنَاظَرَةِ الْمُشْرِكِينَ (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) وَالْآيَاتُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَبِيَدِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهَا خَوَارِقُ فَوْقَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَالْغَيْبُ لِلَّهِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ قَدَّرَ إِنْزَالَ آيَةٍ عَلِيَّ فَهُوَ يَعْلَمُ وَقْتَهَا وَيُنَزِّلُهَا فِيهِ، وَأَنَا لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ فَانْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لِمَا يَفْعَلُهُ بِي وَبِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ حِكَايَةِ رَمْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِافْتِرَاءِ الْقُرْآنِ: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٤٦: ٩) وَيُفَسِّرُ مَا يَنْتَظِرُهُ وَيَنْتَظِرُونَهُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (١٠٢) وَفِيهِ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِالْعَذَابِ وَهُوَ قِسْمَانِ: عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِمَنْ أُوتُوا مَا اقْتَرَحُوا عَلَى رُسُلِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ فَأَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، وَعَذَابُ مَنْ لَمْ يُؤْتَوْا ذَلِكَ وَهُوَ خِذْلَانُهُمْ وَنَصْرُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا وَرَاءَهُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.

حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمُ اقْتِرَاحَ آيَةٍ أَوْ آيَاتٍ مُبْهَمَةٍ فِي بَعْضِ السُّورِ، وَاقْتِرَاحَ آيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، مِنْهَا مَا نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْحِجْرُ (١٥: ٦ - ٨) فَالْأَنْعَامُ (٦: ٨ و٩ ٣٩ - ٤١ و١٠٩ و١١١) فَالْأَنْبِيَاءُ (٢١: ٥) فَالْعَنْكَبُوتُ

(٢٩: ٥٠) فَالرَّعْدُ (١٣: ٧ و٢٧) وَفِيهَا أَجْوِبَةٌ أُخْرَى، فَأَمَّا الْأَنْعَامُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِكَوْنِ الْآيَاتِ لَا تَزِيدُهُمْ إِلَّا عِنَادًا وَإِصْرَارًا عَلَى الْجُحُودِ فَتَحِقُّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَتَنَافِي مُرَادَ

<<  <  ج: ص:  >  >>