للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمَشْيَ أَيْ عَجَّلَهُ، وَأَمَّا سَرُعَ فَكَأَنَّهَا غَرِيزَةٌ، وَأَنَّ ابْنَ جِنِّيٍّ اسْتَعْمَلَ أَسْرَعَ مُتَعَدِّيًا، انْتَهَى. وَجَوَّزَ بَعْضُ النُّحَاةِ كَوْنَ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِثْلِ ((أَسْرَعُ)) مُطْلَقًا، أَوْ إِذَا لَمْ تَكُنْ هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ.

ثُمَّ ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلًا لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ هُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) السَّيْرُ الْمُضِيُّ وَالِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَالتَّسْيِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ يَسِيرُ بِتَسْخِيرِهِ أَوْ إِعْطَائِهِ مَا يَسِيرُ عَلَيْهِ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ مَرْكَّبَةٍ أَوْ سَفِينَةٍ، أَيْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا وَهَبَكُمْ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّيْرِ، وَمَا سَخَّرَ لَكُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ (وَزَادَنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الْقِطَارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ الْبُخَارِيَّةَ وَالطَّيَّارَاتِ الَّتِي تَسِيرُ فِي الْجَوَاءِ) (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أَيْ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي إِحْدَى حَوَادِثِ سَيْرِكُمُ الْبَحْرِيِّ رَاكِبِينَ فِي الْفُلْكِ الَّتِي سَخَّرَهَا لَكُمْ، وَالْفُلْكُ بِالضَّمِّ اسْمٌ لِلسَّفِينَةِ الْمُفْرَدَةِ وَلِجَمْعِهَا وَهُوَ السُّفُنُ وَالسَّفَائِنُ (مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ وَاحِدٌ) وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَمْعُ إِذْ قَالَ: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أَيْ وَجَرَتْ هَذِهِ الْفُلْكُ بِمَنْ فِيهَا بِسَبَبِ رِيحٍ طَيِّبَةٍ، أَيْ رُخَاءٍ مُوَاتِيَةٍ لَهُمْ فِي جِهَةِ سِيَرِهِمْ، وَالطِّيبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا يُوَافِقُ الْغَرَضَ وَالْمَنْفَعَةَ؛ يُقَالُ: رِزْقٌ طَيِّبٌ، وَنَفْسٌ طَيِّبَةٌ، وَبَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، وَشَجَرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: (بِهِمْ) الْتِفَاتٌ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَائِدَتُهُ _ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ _ الْمُبَالَغَةُ، كَأَنَّهُ يَذْكُرُ لِغَيْرِهِمْ حَالَهُمْ لِيُعْجِبَهُمْ مِنْهَا وَيَسْتَدْعِيَ مِنْهُمُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْبِيحَ لَهَا لِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ وَفَرِحُوا بِهَا لِمَا يَكُونُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الرَّاحَةِ وَالِانْتِعَاشِ وَالْأَمْنِ مِنْ دُوَارِ الْبَحْرِ وَالتَّمَتُّعِ بِمَنْظَرِهِ الْجَمِيلِ، فِي ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْعَلِيلِ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ

أَيْ جَاءَتِ الْفُلْكَ أَوِ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ، أَيْ لَاقَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ قَوِيَّةٌ.

يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ فَهِيَ عَاصِفٌ وَعَاصِفَةٌ أَيْ تَعْصِفُ الْأَشْيَاءَ فَتَكُونُ كَعَصْفِ النَّبَاتِ وَهُوَ الْحُطَامُ الْمُتَكَسِّرَةُ مِنْهُ: (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَيْ وَاضْطَرَبَ الْبَحْرُ وَتَمَوَّجَ سَطْحُهُ كُلُّهُ، فَتَلَقَّاهُمْ مَوْجُهُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ وَالنَّوَاحِي بِتَأْثِيرِ الرِّيحِ، فَهِيَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا مَا يَهُبُّ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ كَالرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ، وَمِنْهَا النَّكْبَاءُ وَهِي الْمُنْحَرِفَةُ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ رِيحَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَمِنْهَا الْمُتَنَاوِحَةُ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، وَمِنْهَا الْإِعْصَارُ وَهِي الرِّيحُ الَّتِي تَدُورُ فَتَكُونُ عَمُودِيَّةً فَيَرْتَفِعُ بِهَا مَا تَدُورُ عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ وَالْحَصَى مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَاءِ مِنْ سَطْحِ الْبَحْرِ بِمَا عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مَنْ سَمَكٍ وَغَيْرِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي مَكَانٍ آخَرَ (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أَيِ اعْتَقَدُوا اعْتِقَادًا رَاجِحًا أَنَّهُمْ هَلَكُوا بِإِحَاطَةِ الْمَوْجِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، كَمَا يُحِيطُ الْعَدُوُّ الْمُحَارِبُ بِعَدُوِّهِ إِذْ يُطَوِّقُهُ بِمَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ سُبُلَ النَّجَاةِ. ذَلِكَ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَاصِفِ يَهْبِطُ بِهِمْ فِي لُجَجِ الْبَحْرِ تَارَةً كَأَنَّهُمْ سَقَطُوا فِي هَاوِيَةٍ سَحِيقَةٍ، وَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَثِبَ بِهِمْ إِلَى أَعْلَى غَوَارِبِ الْمَوْجِ كَأَنَّهُمْ فِي قُنَّةِ جَبَلٍ شَاهِقٍ أَصَابَهُ رَجْفَةُ زَلْزَلَةٍ شَدِيدَةٍ (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) هَذَا جَوَابٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) إِلَخْ، أَيْ حَتَّى إِذَا مَا نَزَلَ بِهِمْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>