للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا مَنْ يُبْدِي فِي الدِّينِ فَهْمًا، وَيُقَرِّرُ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنَ الدَّلِيلِ حُكْمًا، يُرِيدُ أَنْ يَفْتَحَ بِهِ لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الْفِقْهِ، وَيُسَهِّلَ لَهُمْ طَرِيقَ الْعِلْمِ، ثُمَّ هُوَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِأَنْ يَعْرِضُوا قَوْلَهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَيَنْهَاهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ إِلَّا أَنْ يَقْتَنِعُوا بِدَلِيلِهِ ; فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى، أَعْلَامِ التُّقَى، وَلَيْسَ يَضُرُّهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَيَجْعَلَ نِدًّا لِلَّهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مُخْطِئًا وَجَاءَ ذَلِكَ الْمُقَلِّدُ لَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْسِبُ ضَلَالَهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَتَبَرَّأُ مِنْهُ بِحَقٍّ وَيَقُولُ: مَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَأْخُذَ بِقَوْلِي عَلَى عِلَّاتِهِ وَلَا أَعْرِفُكَ، فَالَّذِينَ يُتَّخَذُونَ أَنْدَادًا يَتَبَرَّءُونَ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُونَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ عَبَدَهُمُ النَّاسُ كَالْمَسِيحِ وَبَعْضِ أُولِي الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، أَوْ قَلَّدُوهُمْ وَأَخَذُوا بِأَقْوَالِهِمْ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ كَبَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ هَؤُلَاءِ بِعِبَادَتِهِمْ أَوْ تَقْلِيدِهِمْ، بَلْ مَعَ نَهْيِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَعَنِ الِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِ وَحْيِهِ فِي الدِّينِ، فَهَذَا الْقِسْمُ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا ; لِأَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوا أُولَئِكَ الْأَخْيَارَ أَوْ قَلَّدُوهُمْ فِي دِينِهِمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ ; إِذِ اتِّبَاعُهُمْ هُوَ اتِّبَاعُ طَرِيقَتِهِمْ فِي الدِّينِ، وَمَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِاللهِ أَحَدًا وَلَا شَيْئًا، وَلَا يُقَلِّدُونَ فِي دِينِهِ أَحَدًا وَإِنَّمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ دِينَهُ عَنْ وَحْيِهِ فَقَطْ. وَقِسْمٌ أَضَلُّوا النَّاسَ بِأَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ فَاتَّبَعُوهُمْ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا هُدًى، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِذْ تَتَقَطَّعُ بِهِمْ أَسْبَابُ الْأَهْوَاءِ وَالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَرْبِطُ - هُنَا - بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ.

قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا) أَيْ: نَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ لَنَا رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا لِنَتَبَرَّأَ مِنَ اتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ الْمُضِلِّينَ وَنَتَنَصَّلَ مِنْ رِيَاسَتِهِمْ، أَوْ لِنَتَّبِعَ سَبِيلَ الْحَقِّ وَنَأْخُذَ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَنَهْتَدِيَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ثُمَّ نَعُودُ إِلَى هُنَا ((الْآخِرَةِ)) فَنَتَبَرَّأُ مِنْ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ; إِذْ نَسْعَدُ بِعَمَلِنَا مِنْ حَيْثُ هُمْ أَشْقِيَاءُ بِأَعْمَالِهِمْ (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) أَيْ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُظْهِرُ لَهُمْ كَيْفَ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ قَدْ كَانَ لَهَا أَسْوَأُ الْأَثَرِ فِي نُفُوسِهِمْ إِذْ جَعَلَتْهَا مُسْتَذَلَّةً مُسْتَعْبَدَةً لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى فَأَوْرَثَهَا ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمَةِ وَالصَّغَارِ مَا كَانَ

حَسْرَةً وَشَقَاءً عَلَيْهَا، فَالْأَعْمَالُ هِيَ الَّتِي كَوَّنَتْ هَذِهِ الْحَسَرَاتِ فِي النَّفْسِ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَسْعَدُ فِيهَا كُلُّ نَفْسٍ بِتَزْكِيَتِهَا، وَتَشْقَى بِتَدْسِيَتِهَا (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) إِلَى الدُّنْيَا صَحِيحِي الْعَقِيدَةِ لِيُصْلِحُوا أَعْمَالَهُمْ، فَيُشْفُوا غَيْظَهُمْ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ، وَلَا إِلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّ عِلَّةَ دُخُولِهِمْ فِي النَّارِ هِيَ ذَوَاتُهُمْ بِمَا طَبَعَتْهَا عَلَيْهِ خُرَافَاتُ الشِّرْكِ وَحُبُّ الْأَنْدَادِ.

(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) يَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ، نَعَمْ إِنَّهُ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ كَمَا قَالُوا، وَلَكِنْ مِنَ الْخَطَأِ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَا يَفْصِلُ بَيْنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>