للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ) أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللهُ وَسَخَّرَهُ لَنَا مِنْ سَائِرِ مَنَافِعِ الْكَوْنِ فَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ كَالرِّزْقِ وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْفَحْوَى، وَبِنَاءُ الْمِنَّةِ فِيهِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ تَعَالَى، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (٢: ٢٩) .

(وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) سَجَّلَ عَلَيْهِمْ جَرِيمَةَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَهُوَ اخْتِلَاقُهُ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ عَلَيْهِ مُشِيرًا إِلَى مَا يَكُونُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ وَشَدَّةِ عِقَابِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ ظَنُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي تُجْزَى فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ أَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُتْرَكُونَ بِغَيْرِ عِقَابٍ عَلَى جَرِيمَةِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَهُوَ تَعَمُّدُهُ فِي حَقٍّ خَاصٍّ بِرُبُوبِيَّتِهِ، فَهُوَ نِزَاعٌ لَهُ فِيهَا وَشِرْكٌ بِهِ، كَمَا قَالَ: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (٤٢: ٢١) الْآيَةَ. فَوَيْلٌ لِلْمُعَمِّمِينَ مِنْ جُهَلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ وَيُحِلُّونَ لَهُمْ بِتَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ، أَوْ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالرَّأْيِ فِي الدِّينِ، وَهُمْ يَتْلُونَ قَوْلَهُ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)

(١٦: ١١٦، ١١٧) .

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَضَمَّنُ بِمَفْهُومِهِ تَعْلِيلًا لِمَا فُهِمَ مِمَّا قَبْلَهَا مِنْ عِقَابِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ بِكَوْنِهِ عَدْلًا اسْتَحَقُّوهُ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا ظُلْمًا مِنْهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ فَضْلِهِ عَلَى النَّاسِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ أَشَدَّ التَّوْكِيدِ، فَأَفَادَ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ لِمُجَرَّدِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لَهُمْ إِذَا قَابَلُوا أَكْبَرَ فَضْلِهِ وَنِعَمِهِ، بِأَشَدِّ الْكُفْرِ وَأَنْكَرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنَ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَغْرَبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ. وَالْمَعْنَى: تَاللهِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَكُلِّ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَصْلَ فِيمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ الْإِبَاحَةَ وَجَعَلَ حَقَّ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لَهُ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، لِكَيْلَا يَتَحَكَّمَ فِيهِمْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ عِبَادِهِ، كَالَّذِينِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ - بَرَاءَةٌ - وَهُوَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ بِهِمْ، وَلِهَذَا أَبَاحَ لَهُمْ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ إِذَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ وَكَانَ تَرْكُهُ أَضَرَّ مِنْ تَنَاوُلِهِ، وَحَصَرَ أُصُولَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِي قَوْلِهِ: (لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦: ١٤٥) وَفَصَّلَ أَنْوَاعَ الْمَيْتَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (٥: ٣) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَجِبُ، كَمَا قَالَ: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (٣٤: ١٣) فَيَجْنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْهِمْ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِ نِعَمِهِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَالْغُلُوِّ فِي الزُّهْدِ، وَتَرْكِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَفِي ضِدِّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الْأَكْلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>