للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ رَعَايَاهُمْ إِلَّا بِوَسَائِلِ حُجَّابِهِ وَوُسَائِطِهِ وَوُزَرَائِهِ (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أَيْ وَمَا هُمْ فِي اتِّبَاعِ هَذَا الظَّنِّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، إِلَّا يَخْرُصُونَ خَرْصًا، أَيْ يَحْزِرُونَ حَزْرًا، أَوْ يَكْذِبُونَ كَذِبًا، أَصْلُ الْخَرَصِ: الْحَزْرُ وَالتَّقْدِيرُ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَجْرِي عَلَى قِيَاسٍ مِنْ وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ أَوْ ذِرَاعٍ، بَلْ هُوَ كَخَرَصِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ وَالْحَبِّ فِي الزَّرْعِ، وَلِكَثْرَةِ الْخَطَأِ فِيهِ أُطْلِقَ عَلَى لَازِمِهِ الْغَالِبِ وَهُوَ الْكَذِبُ، فَالظَّنُّ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ يَكُونُ مِنْ أَضْعَفِ الظَّنِّ وَأَبَعْدِهِ عَنِ الْحَقِّ، مِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ قِيَاسِ الرَّبِّ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ عِبَادِهِ عَلَى الْمُلُوكِ، وَهَذَا قِيَاسٌ شَيْطَانِيٌّ سَمِعْتُهُ مِنْ جَمِيعِ طَبَقَاتِ الْجَاهِلِينَ لِعَقَائِدِ الْإِسْلَامِ، وَتَوْحِيدِ الرَّحْمَنِ، حَتَّى مَنْ يُلَقَّبُونَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْبَاشَوَاتِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي وَسَائِلِهِمُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّهُمْ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ أَحَدًا فَإِنَّهُ يَقَبْلُ وَسَاطَتَهُ

وَشَفَاعَتَهُ، فَيَقِيسُونَ تَأْثِيرَ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ عِنْدَهُ تَعَالَى، عَلَى تَأْثِيرِ أَصْدِقَاءِ الْمُلُوكِ وَالْوُجَهَاءِ وَمَعْشُوقِيهِمْ فِي قَبُولِهِمْ مِنْهُمْ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُونَهُ، وَيَجْهَلُونَ أَنَّ أَفْعَالَ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَجْرِي بِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ الذَّاتِيِّ الْمُحِيطِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ الْعَادِلَةِ، وَأَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَامِلَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْحَوَادِثُ وَأَنَّ جَمِيعَ أَوْلِيَائِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لَهُ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (١٧: ٥٧) أَيْ إِنَّ أَقْرَبَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِهِمْ كَالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ دُونَهَمْ هُمْ يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ رَاجِينَ خَائِفِينَ، لَا كَأَعْوَانِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ لَا يَقُومُ أَمْرُ مَلِكِهِمْ بِدُونِهِمْ، وَمَعْشُوقِيهِمُ الَّذِينَ لَا يَتِمُّ تَمَتُّعُهُمُ الشَّهْوَانِيُّ إِلَّا بِهِمْ.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ مِنْ نَفْيِ وُجُودِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَا بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ؛ أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْوَقْتَ قَسَمَيْنِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ بِدُونِ مُسَاعِدٍ وَلَا شَفِيعٍ، بَلْ بِمَحْضِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ: أَحَدُهُمَا اللَّيْلُ جَعَلَهُ مُظْلِمًا لِأَجْلِ أَنْ تَسْكُنُوا فِيهِ بَعْدَ طُولِ الْحَرَكَةِ وَالتَّقَلُّبِ فِي الْأَرْضِ، تَسْتَرِيحُونَ مِنَ التَّعَبِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَثَانِيهِمَا النَّهَارُ جَعَلَهُ مُضِيئًا ذَا إِبْصَارٍ لِتَنْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، وَتَقُومُوا بِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْعُمْرَانِ وَالْكَسْبِ، وَالشُّكْرِ لِلرَّبِّ، فَالْمُبْصِرُ هُنَا مُعْطَى الْإِبْصَارِ سَبَبَهُ حِسِّيًّا كَانَ أَوْ مَعْنَوِيًّا، فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) (١٧: ١٢) الْآيَةَ. وَالثَّانِي قَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) (١٧: ٥٩) أَيْ آيَةً مُفِيدَةً لِلْبَصِيرَةِ وَالْحُجَّةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٢٧: ١٣) .

وَقَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَظْلَمَ اللَّيْلُ وَأَبْصَرَ النَّهَارُ وَأَضَاءَ بِمَعْنَى صَارَ ذَا ظُلْمَةٍ وَذَا إِبْصَارٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>