للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِرْعَوْنَ فِيمَا يَطْلُبُ هُوَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ يَسْتَذِلُّونَ الشُّعُوبَ وَيَسْتَعْبِدُونَهُمْ بِرُؤَسَاءَ وَعُرَفَاءَ مِنْهُمْ وَقِيلَ: مَلَأُ فِرْعَوْنَ وَجَمْعُ ضَمِيرِهِ لِلتَّعْظِيمِ، عَلَى خَوْفٍ مِنْهُ أَنْ يَفْتِنَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لِمُوسَى وَاتِّبَاعِ دِينِهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالْإِرْهَاقِ. الْفُتُونُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ الشَّدِيدُ لِلْحَمْلِ عَلَى الشَّيْءِ أَوْ عَلَى تَرْكِهِ وَاسْتُعْمِلَ فِي الِاضْطِهَادِ وَالتَّعْذِيبِ لِلِارْتِدَادِ عَنِ الدِّينِ بِكَثْرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (٨: ٣٩) (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ فِرْعَوْنَ عَاتٍ شَدِيدُ الْعُتُوِّ، مُسْتَبِدٌّ غَالِبٌ قَوِيُّ الْقَهْرِ فِي أَرْضِ مِصْرَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُخَافَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ بِعُلُوِّهِ قَهْرُهُ وَاسْتِبْدَادُهُ كَمَا حَكَى الله عَنْهُ بِقَوْلِهِ:

(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (٧:١٢٧) (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أَيِ الْمُتَجَاوِزِينَ حُدُودَ الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، إِلَى الظُّلْمِ وَالْقَتْلِ، وَالْعُدْوَانِ وَالْبَغْيِ، وَغَمْطِ الْحَقِّ وَاحْتِقَارِ الْخَلْقِ وَهُوَ مَعْنَى الْكِبْرِيَاءِ.

(وَقَالَ مُوسَى) لِمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ وَقَدْ رَأَى خَوْفَهُمْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ مُرْشِدًا وَمُثْبِتًا لَهُمْ: (يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ حَقَّ الْإِيمَانِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، وَبِوَعْدِهِ فَثِقُوا، إِنْ كُنْتُمْ فِي إِيمَانِكُمْ مُسْتَسْلِمِينَ مُذْعِنِينَ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ يَقِينًا إِذَا صَدَّقَهُ الْعَمَلُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِ جَمِيعِ قَوْمِهِ كَمَا قِيلَ، فَالْإِيمَانُ بِاللهِ غَيْرُ الْإِيمَانِ لِمُوسَى الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى الْإِسْلَامِ وَالِاتِّبَاعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) وَهُمْ قَدْ طَلَبُوا مِنْهُ بَعْدَ نَجَاتِهِمْ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ آلِهَةً مِنَ الْأَصْنَامِ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعَجَلَ الْمَصْنُوعَ وَعَبَدُوهُ.

(فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ فَامْتَثَلُوا الْأَمْرَ، إِذْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِنْجَازُ الْوَعْدِ، وَصَرَّحُوا بِهِ فِي الْقَوْلِ، مَعَ الدُّعَاءِ بِأَنْ يَحْفَظَهُمْ مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَالدُّعَاءَ لَا يَصِحُّ وَلَا يُقْبَلُ فَيُسْتَجَابُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا أَوْ مُقَارَنًا لِاتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ، وَهُوَ أَنْ تَعْمَلَ مَا تَسْتَطِيعُ، وَتَطْلُبَ مِنَ اللهِ أَنْ يُسَخِّرَ لَكَ مَا لَا تَسْتَطِيعُ، وَلَفْظُ (فِتْنَةٍ) هُنَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْفَاتِنِ وَالْمَفْتُونِ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: رَبَّنَا لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا، وَلَا تَفْتِنَّا بِهِمْ فَنَتَوَلَّى عَنِ اتِّبَاعِ نَبِيِّنَا، أَوْ نَضْعُفَ فِيهِ فِرَارًا مِنْ شِدَّةِ ظُلْمِهِمْ لَنَا، وَلَا تَفْتِنْهُمْ بِنَا فَيَزْدَادُوا كُفْرًا وَعِنَادًا وَظُلْمًا بِظُهُورِهِمْ عَلَيْنَا، وَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّنَا عَلَى الْبَاطِلِ وَمِنَ الْمَعْقُولِ وَالثَّابِتِ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ سُوءَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْحَقِّ فِي أَيِّ حَالٍ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ عَمَلٍ مَذْمُومٍ، يَجْعَلُهُمْ مَوْضِعًا أَوْ مَوْضُوعًا لَافِتَتَانِ الْكَفَّارِ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ بِهِمْ بِاعْتِقَادِ أَنَّهُمْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا

أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) (٦: ٥٣) وَقَالَ: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (٢٥: ٢٠) فَكَيْفَ إِذَا خَذَلَ أَهْلَ الْحَقِّ حَقُّهُمْ، وَكَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ؟ .

<<  <  ج: ص:  >  >>