للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِنَّ اتِّبَاعَ الشَّخْصِ لِذَاتِهِ مُنْكَرٌ لَا يَنْبَغِي، وَهَذَا قَوْلٌ مَأْلُوفٌ، فَمَنْ يَقُولُ: أَنَا أَتَّبِعُ فُلَانًا فِي كُلِّ مَا يَعْمَلُ، يُقَالُ لَهُ: أَتَتَّبِعُهُ وَلَوْ كَانَ لَا يَعْمَلُ خَيْرًا؟ أَيْ: أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ يَتَّبِعُ آخَرَ لِذَاتِهِ لَا لِكَوْنِهِ مُحَسِنًا وَمُصِيبًا أَنْ يَتَّبِعَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ كُلُّ عَمَلِهِ بَاطِلًا ; لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَّا مَنْ يَنْظُرُ وَيُمَيِّزُ، وَهَذَا لَا يَتَّبِعُ أَحَدًا لِذَاتِهِ كَيْفَمَا كَانَ حَالُهُ.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)

بَعْدَمَا بَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ مَا عَلَيْهِ الْمُقَلِّدُونَ مِنِ اتِّبَاعِ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ شَأْنِهِمْ، وَالزِّرَايَةِ عَلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِ: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ: صِفَتُهُمْ فِي تَقْلِيدِهِمْ لِآبَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) أَيْ: كَصِفَةِ الرَّاعِي لِلْبَهَائِمِ

السَّائِمَةِ يَنْعِقُ وَيَصِيحُ بِهَا فِي سَوْقِهَا إِلَى الْمَرْعَى وَدَعْوَتِهَا إِلَى الْمَاءِ وَزَجْرِهَا عَنِ الْحِمَى فَتُجِيبُ دَعْوَتَهُ وَتَنْزَجِرُ بِزَجْرِهِ بِمَا أَلِفَتْ مِنْ نُعَاقِهِ بِالتَّكْرَارِ، شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْغَنَمِ مَعَ الرَّاعِي يَدْعُوهَا فَتُقْبِلُ، وَيَزْجُرُهَا فَتَنْزَجِرُ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ مِمَّا يَقُولُ شَيْئًا وَلَا تَفْهَمُ لَهُ مَعْنًى، وَإِنَّمَا تَسْمَعُ أَصْوَاتًا تُقْبِلُ لِبَعْضِهَا وَتُدْبِرُ لِلْآخَرِ بِالتَّعْوِيدِ، وَلَا تَعْقِلُ سَبَبًا لِلْإِقْبَالِ وَلَا لِلْإِدْبَارِ، وَمَعْنَى الْمَثَلِ هُنَا - كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ - أَنَّ صِفَةَ الْكُفَّارِ وَشَأْنَهُمْ كَشَأْنِ النَّاعِقِ بِالْغَنَمِ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ الْمُشَبَّهِ كَمُقَابِلِهِ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَهُوَ مَا سَمَّاهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ بَعْدَ سِيبَوَيْهِ بِالتَّمْثِيلِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَشْبِيهِ مُتَعَدِّدٍ بِمُتَعَدِّدٍ، وَالْكُفْرُ جُحُودُ الْحَقِّ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الضَّلَالِ، فَإِنَّ الضَّالَّ مَنْ أَخْطَأَ طَرِيقَ الْحَقِّ مَعَ طَلَبِهِ أَوْ جَهْلِهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِدَلَالَةِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ يَرَى الْحَقَّ وَيُعْرِضُ عَنْهُ، وَيَصْرِفُ نَفْسَهُ عَنْ دَلَائِلِهِ وَآيَاتِهِ فَلَا يَنْظُرُ فِيهَا، فَهُوَ كَالْحَيَوَانِ يَرْضَى بِأَلَّا يَكُونَ لَهُ فَهْمٌ وَلَا عِلْمٌ، بَلْ يَقُودُهُ غَيْرُهُ وَيَصْرِفُهُ كَيْفَ شَاءَ، فَهُوَ مَعَ مَنْ قَلَّدَهُمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ كَالْغَنَمِ مَعَ الرَّاعِي تُقْبِلُ بِدُعَائِهِ وَتَنْزَجِرُ بِنِدَائِهِ، مُسَخَّرَةً لِإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ، وَلَا تَفْهَمُ لِمَاذَا دَعَا وَلِمَاذَا زَجَرَ؟ فَدَعْوَتُهَا إِلَى الرَّعْيِ وَإِلَى الذَّبْحِ سَوَاءٌ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مَنْ يُسَلِّمُ اعْتِقَادًا بِلَا دَلِيلٍ، وَيَقْبَلُ تَكْلِيفًا بِغَيْرِ فِقْهٍ وَلَا تَعْلِيلٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>