للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ أَهْلُهَا وَهُمْ أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ بُعِثُوا فِي أَهْلِ الْحَضَارَةِ وَالْعُمْرَانِ دُونَ الْبَادِيَةِ، أَيْ فَهَلَّا كَانَ أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَقْوَامِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ آمَنَتْ بِدَعْوَتِهِمْ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) قَبْلَ وُقُوعِ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ قَوْمٌ مِنْهُمْ بَرُمَّتِهِمْ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ يَسْتَلْزِمُ الْجَحْدَ (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) قَبْلَ وُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ بِالْفِعْلِ، وَكَانُوا عَلِمُوا بِقُرْبِهِ مِنْ خُرُوجِ نَبِيِّهِمْ مِنْ بَيْنِهِمْ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ رَأَوْا عَلَامَاتِهِ، وَيَجُوزُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أَيْ صَرَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ نَبِيَّهُمْ خَرَجَ بِدُونِ إِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، فَلَمْ تَتِمَّ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَلَا حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِذَهَابِهِ مُغَاضِبًا لَهُمْ عَلَى قُرْبِ وُقُوعِ الْعَذَابِ

كَمَا أَنْذَرَهُمْ فَتَابُوا وَآمَنُوا فَكَشَفْنَاهُ عَنْهُمْ (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أَيْ وَمَتَّعْنَاهُمْ بِمَنَافِعِهَا إِلَى زَمَنٍ مَعْلُومٍ هُوَ عُمْرُهُمُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي يَعِيشُهُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَسْبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي اسْتِعْدَادِ بِنْيَتِهِ وَمَعِيشَتِهِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا الْكَلَامَ فِي الْأَجَلِ الَّذِي يُسَمَّى الطَّبِيعِيَّ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) (٦: ٢) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَا مَحَلَّ لِلْبَحْثِ عَنْ تَعْذِيبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَإِنَّ شَهَادَةَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالْإِيمَانِ النَّافِعِ ظَاهِرَةٌ فِي قَبُولِهِ مِنْهُمْ، صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَابِقِ كُفْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُجَزَوْنَ بِغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ.

هَذَا الَّذِي فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَتِهَا، وَالْمُوَافِقُ لِلسِّيَاقِ وَلِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِنْذَارُهُمْ، وَحَضٌّ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كَقَوْمِ يُونُسَ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا عَذَابَ الْخِزْيِ بِعِنَادِهِمْ، حَتَّى إِذَا أَنْذَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ قُرْبَ وُقُوعِهِ وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمُ اعْتَبَرُوا وَآمَنُوا قَبْلَ الْيَأْسِ، وَحُلُولِ الْبَأْسِ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى مَا ثَبَتَ مِنْ خَبَرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّافَّاتِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ فِي جُمْلَتِهِ لِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ.

(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) أَيْ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ - أَيُّهَا الرَّسُولُ الْحَرِيصُ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ - أَنْ يُؤْمِنَ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا لَا يَشِذُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَآمَنُوا، بِأَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ إِلْجَاءً، وَيُوجِرَهُ فِي قُلُوبِهِمْ إِيجَارًا، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ كَالْمَلَائِكَةِ لَا اسْتِعْدَادَ فِي فِطْرَتِهِمْ لِغَيْرِ الْإِيمَانِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا) (٦: ١٠٧) وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) (١١: ١١٨) وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللهُ أَلَّا يَخْلُقَ هَذَا النَّوْعَ الْمُسَمَّى بِالْإِنْسَانِ الْمُسْتَعِدِّ بِفِطْرَتِهِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، الَّذِي يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الْمُسْتَطَاعَةِ لَهُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ وَيُخَالِفُهُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، لَفَعَلَ ذَلِكَ وَلَمَا وُجِدَ الْإِنْسَانُ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ يَخْلُقَ هَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>