للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) أَيْ أُمِرْتُ بِأَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَنْ أُقِيمَ وَجْهِيَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ حَالَةَ كَوْنِي حَنِيفًا، أَيْ مَائِلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ، وَلَكِنِ اخْتِيرَ هُنَا صِيغَةُ الطَّلَبِ وَفِيمَا قَبْلَهُ الْخَبَرُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَبَرَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعَلَاقَةِ هَذَا الْأَمْرِ بِالْمَاضِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، الْمَوْعُودِينَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي النَّبِيِّينَ، وَالطَّلَبُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعَلَاقَتِهِ هُوَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، مِنْ دَعْوَةِ هَذَا الدِّينِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَسَائِرِ النَّاسِ - وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِعْرَابِ كَمَا حَقَّقَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ - وَإِقَامَةُ الْوَجْهِ لِلدِّينِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الرُّومِ (٣٠ - ٤٣) عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَجُّهِ فِيهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِي الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ بِدُونِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ، وَفِي مَعْنَاهُ: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا) (٦: ٧٩) وَمِثْلُهُ إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ١١٢) وَآلِ عِمْرَانَ (٣: ٢٠) وَالنِّسَاءِ (٤: ١٢٥) وَإِسْلَامُهُ إِلَى اللهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ (٣١: ٢٢) وَكَذَا تَوْجِيهُ الْوَجْهِ الْحِسِّيِّ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي آيَاتِهَا وَهُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ وِجْهَةُ الْإِنْسَانِ، فَمَنْ تَوَجَّهَ قَلْبُهُ فِي عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ (وَلَا سِيَّمَا مُخِّ الْعِبَادَةِ وَرُوحِهَا وَهُوَ الدُّعَاءُ) إِلَى غَيْرِ اللهِ فَهُوَ عَابِدٌ لَهُ مُشْرِكٌ بِاللهِ، وَأَكَّدَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَقَالَ: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَصْحَابِ الدِّيَانَاتِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى حِجَابًا مِنَ الْوُسَطَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ يُوَجِّهُونَ قُلُوبَهُمْ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الشِّدَّةِ تُصِيبُهُمْ، وَالْحَاجَةِ الَّتِي تَسْتَعْصِي عَلَى كَسْبِهِمْ، وَوُجُوهَهُمْ وَجُمْلَتَهُمْ إِلَى صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ فِي هَيَاكِلِهِمْ، أَوْ قُبُورِهِمْ فِي مَعَابِدِهِمْ، وَيَدْعُونَهُمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ إِمَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا بِشَفَاعَتِهِمْ وَوَسَاطَتِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا بِالْإِشَارَةِ إِلَى سَبَبِهِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّهْيِ عَنْ مَثَلِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَقَالَ:

(وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ) أَيْ وَلَا تَدْعُ غَيْرَهُ تَعَالَى (دُعَاءَ عِبَادَةٍ، وَهُوَ مَا فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَالْجَرْيِ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ فِي طَلَبِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ) لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ بِوَسَاطَةِ الشُّفَعَاءِ - مَا لَا يَنْفَعُكَ إِنْ دَعْوَتَهُ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِوَسَاطَتِهِ، وَلَا يَضُرُّكَ إِنْ تَرَكْتَ دُعَاءَهُ وَلَا إِنْ دَعَوْتَ غَيْرَهُ (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ فَإِنْ فَعَلْتَ هَذَا بِأَنْ دَعَوْتَ غَيْرَهُ فَإِنَّكَ أَيُّهَا الْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ طَغَامَةِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمُ الظُّلْمَ الْأَكْبَرَ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٣١: ١٣) فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ دُعَاءُ اللهِ وَحْدَهُ هُوَ أَعْظَمُ الْعِبَادَةِ وَمُخُّهَا - كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ - كَانَ دُعَاءُ غَيْرِهِ هُوَ مُعْظَمُ الشِّرْكِ وَمُخُّهُ، كَمَا كَرَّرْنَا التَّصْرِيحَ بِهِ بِتَكْرَارِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ النَّاهِيَةِ عَنْهُ، وَمِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (٢١٨) وَقَوْلُهُ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (٤٩) وَقَوْلُهُ قَبْلَهُمَا: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) (١٢)

<<  <  ج: ص:  >  >>