للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حُظُوظِ الْجَسَدِ، إِذْ رَأَوْا فِي دِينِهِمْ وَفِي سِيرَةِ الْمَسِيحِ وَحَوَارِيِّيهِ مِنْ طَلَبِ الْمُبَالَغَةَ فِي الزُّهْدِ مَا يُؤَيِّدُهَا.

وَقَدْ تَفَضَّلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِجَعْلِهَا أُمَّةً وَسَطًا تُعْطِي الْجَسَدَ حَقَّهُ وَالرُّوحَ حَقَّهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) فَأَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ لِتَتَّسِعَ دَائِرَةُ نِعَمِهِ الْجَسَدِيَّةِ عَلَيْنَا، وَأَمَرَنَا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا لِيَكُونَ لَنَا مِنْهَا فَوَائِدُ رُوحَانِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ، فَلَمْ نَكُنْ جُثْمَانِيِّينَ مَحْضًا كَالْأَنْعَامِ، وَلَا رُوحَانِيِّينَ خُلَّصًا كَالْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَنَا أَنَاسِيَ كَمَلَةً بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ.

ظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُتَمِّمَةٌ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ - وَلَهُ وَجْهٌ فِيمَا قَالَ -: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّهُ فِي الْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ وَأَحْوَالِ الْمُنْكِرِينَ لِلدَّاعِي، وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِطَرِيقِ الْعَرْضِ وَالِاسْتِطْرَادِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءُ قِسْمٍ جَدِيدٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ سَرْدُ الْأَحْكَامِ ; فَإِنَّهُ يَذْكُرُ بَعْدَهَا أَحْكَامَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ وَأَحْكَامَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْقِصَاصِ وَالْوَصِيَّةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْعِدَّةِ وَالْإِيلَاءِ وَالرَّضَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَنْتَهِي هَذَا الْقِسْمُ بِمَا قَبْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) (٢: ٢٤٣) الْآيَةَ، وَلَا غَرْوَ فَإِنَّ بَيْنَ كُلِّ قِسْمٍ وَآخَرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّنَاسُبِ مِثْلُ مَا بَيْنَ كُلِّ آيَةٍ وَأُخْرَى فِي الْقِسْمِ الْوَاحِدِ (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١١: ١) .

بَعْدَ ذِكْرَ إِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) هَذَا حَصْرٌ لِمُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ مِنَ الْحَيَوَانِ بِصِيغَةِ ((إِنَّمَا)) الدَّالَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ الْإِعْلَامُ بِهِ وَهُوَ آيَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَصْرُ التَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بِصِيغَةِ الْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ الْمَيْتَةَ لِمَا فِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ مِنِ اسْتِقْذَارِهَا، وَلِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ ضَرَرِهَا، فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَاتَتْ بِمَرَضٍ سَابِقٍ أَوْ بِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ، وَكِلَاهُمَا لَا يُؤْمَنُ مِنْ ضَرَرِهِ ; لِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَكُونُ مُعْدِيًا وَالْمَوْتُ الْفُجَائِيُّ يَقْتَضِي بَقَاءَ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الضَّارَّةِ فِي الْجِسْمِ كَالْكَرْبُونِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الِاخْتِنَاقِ، هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَيُزَادُ

عَلَيْهِ عَدَمُ الْقَصْدِ إِلَى إِمَاتَتِهَا بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ سَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَخْنُوقَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا ; وَلِذَلِكَ كَانَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ كُلُّ مَا زَالَتْ حَيَاتُهُ بِغَيْرِ قَصْدِ الزَّكَاةِ كَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ - إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ. (وَالدَّمَ) أَيِ: الْمَسْفُوحَ كَمَا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّهُ قَذِرٌ لَا طَيِّبٌ، وَضَارٌّ كَالْمَيْتَةِ (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) فَإِنَّهُ قَذِرٌ ; لِأَنَّ أَشْهَى غِذَاءِ الْخِنْزِيرِ إِلَيْهِ الْقَاذُورَاتُ وَالنَّجَاسَاتُ، وَهُوَ ضَارٌّ

<<  <  ج: ص:  >  >>