للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَا صَنَعُوا مِمَّا ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ

الرَّحِمِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَالْقُرْبَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَغْرَاضٍ نَفْسِيَّةٍ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا كَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالِاعْتِزَازِ بِأُولِي الْقُرْبَى عَلَى الْأَعْدَاءِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ، فَهُوَ كَالْحَبَطِ ; وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ أَنْ تُكْثِرَ الْأَنْعَامُ مِنْ بَعْضِ الْمَرَاعِي الَّتِي تَسْتَطِيبُهَا حَتَّى تَنْتَفِخَ وَتَفْسُدَ أَحْشَاؤُهَا، فَظَاهِرُ كَثْرَةِ الْأَكْلِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْقُوَّةِ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَبَبًا لِلضَّعْفِ، كَذَلِكَ مَا ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ إِذَا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ سُوءَ النِّيَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَا (وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ وَبَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ لَا ثَمَرَةَ لَهُ وَلَا أَجْرَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِمَقَاصِدِهَا، وَالنَّتَائِجُ تَابِعَةٌ لِمُقَدِّمَاتِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِهِمْ خَيْرٌ وَنِيَّةٌ حَسَنَةٌ يُجَازَوْنَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا.

قَالَ - تَعَالَى - فِي تَفْصِيلِ هَذَا الْإِجْمَالِ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (١٧: ١٨ - ٢١) وَقَالَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الْأَعْظَمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ مُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

الدِّينُ يُبِيحُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ غَيْرِ الضَّارَّةِ، وَيُبِيحُ الزِّينَةَ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا خُيَلَاءٍ، وَإِنَّمَا يَذُمُّ مَنْ يَحْتَقِرُ الْمَوَاهِبَ الْإِنْسَانِيَّةَ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَرُوحَانِيَّةٍ، فَيَجْعَلُ كُلَّ هَمِّهِ وَحَظِّهِ مِنْ وُجُودِهِ فِي الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي تَفْضُلُهُ بِهَا الْأَنْعَامُ وَالْحَشَرَاتُ، فَيَفْضُلُهُ الثَّوْرُ فِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَالْبَعِيرُ فِي كَثْرَةِ الشُّرْبِ، وَالْعُصْفُورُ فِي كَثْرَةِ السِّفَادِ، وَالطَّاوُسُ فِي زِينَةِ الْأَلْوَانِ وَلَمَعَانِ اللِّبَاسِ. وَمَنِ اخْتَبَرَ أَهْلَ أَمْصَارِنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ، عَلِمَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ فِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ وَالزِّينَةِ مَا هُوَ مُفْسِدٌ لِصِحَّتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ حَتَّى نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ، وَمَاحِقٌ لِثَرْوَتِهِمْ، وَمُضْعِفٌ لِأُمَّتِهِمْ وَدَوْلَتِهِمْ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا إِضَاعَةُ آخِرَتِهِمْ، وَتَرَى مَعَ هَذَا أَنَّ حُكُومَتَهُمْ

وَمَدَارِسَهُمْ لَا تُقِيمُ لِلتَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ وَزْنًا، وَتَجْعَلُ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ اخْتِيَارِيَّةً لَا يُلْزَمُهَا أَحَدٌ مِنْ مُعَلِّمِيهَا وَلَا مِنْ تَلَامِيذِهَا.

وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ تَخْتَلِفَ الرِّوَايَاتُ فِي الْآيَتَيْنِ، هَلْ نَزَلَتَا فِي الْمُشْرِكِينَ أَمْ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَمَا نَزَلَتَا مُنْفَرِدَتَيْنِ فِي طَائِفَةٍ خَاصَّةٍ، بَلْ فِي ضِمْنِ سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ حَيْثُ لَا مُنَافِقُونَ وَلَا أَهْلُ كِتَابٍ، وَمَوْضُوعُهُمَا عَامٌّ فِيمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَلَا يَعْمَلُونَ لِأَجْلِهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>