للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَأَنَّ الْوَاعِدَ قَالَ لِلْمَوْعُودِ: إِنَّنِي أَفِي بِهِ فِي وَقْتِهِ، فَإِنْ وَفَى فَقَدْ صَدَقَهُ وَلَمْ يَكْذِبْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَكْذُوبٌ مَصْدَرًا، وَلَهُ نَظَائِرُ كَالْمَفْتُونِ وَالْمَجْلُودِ وَمِنْهُ: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ

٦٨: ٦ - فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَاُ نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ - أَيْ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا بِإِنْجَازِ وَعْدِنَا بِعَذَابِهِمْ نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ ذَلِكَ الْيَوْمِ: أَيْ ذُلِّهِ وَنَكَالِهِ بِاسْتِئْصَالِ الْقَوْمِ مِنَ الْوُجُودِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ سُوءِ الذِّكْرِ وَلَعْنَةِ الْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَأَصْلُ التَّعْبِيرِ: نَجَّيْنَاهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنَّا مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، فَفَصَلَ بَيْنَ (مِنْ) الَّتِي هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَةِ، وَ (مِنْ) الْمُوَصِّلَةِ لِلْعَذَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ هُودٍ بِدُونِ إِعَادَةِ فِعْلِ التَّنْجِيَةِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ هُنَاكَ، وَقُدِّرَ هُنَا اسْتِغْنَاءً عَنْ ذِكْرِهِ بِقُرْبِ مِثْلِهِ.

فَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ (٥٨) فِي قِصَّةِ هُودٍ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ بِالْفَاءِ - فَلَمَّا - وَتِلْكَ بِالْوَاوِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَطْفِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْفَاءُ هِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِمَا هُنَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا جَاءَ بِالْفَاءَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي مَوَاقِعِهَا مِنْ أَمْرِ الْإِنْذَارِ فَالْوَعِيدِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فَالْمُخَالِفَةِ فَتَحْدِيدِ مَوْعِدِ الْعَذَابِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَالْإِخْبَارِ بِإِنْجَازِهِ وَوُقُوعِهِ - فَمَا كَانَ الْمُنَاسِبُ فِي هَذَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْفَاءِ تَعْقِيبًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الشَّمْسِ: - فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ٩١: ١٣ و١٤ وَإِنَّمَا بَيَّنْتُ هَذَا مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّنِي لَمْ أَرَهُ فِي التَّفَاسِيرِ الَّتِي تُعْنَى بِهَا.

فَلْيَتَأَمَّلِ الْقَارِئُ هَذِهِ الدِّقَّةَ الْغَرِيبَةَ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ وَالْفُرُوقِ الدَّقِيقَةِ فِي الْعَطْفِ، فَإِنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ أَلْبَتَّةَ، وَلِيَعْذُرَ الَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا إِذَا جَعَلُوا بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ هِيَ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْعَرَبَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ إِعْجَازُهُ الْعِلْمِيُّ مِنْ وُجُوهِهِ الْكَثِيرَةِ أَعْلَى.

- إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ - إِنَّ رَبَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الَّذِي فَعَلَ هَذَا قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مِثْلِهِ بِقَوْمِكَ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْقَوِيُّ الْمُقْتَدِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ إِنْجَازُ وَعْدِهِ، الْعَزِيزُ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ.

قَرَأَ الْجُمْهُورُ: - يَوْمِئِذٍ - بِجَرِّ يَوْمٍ بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِالْفَتْحِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ: - لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ - ٧٠: ١١.

- وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ - الْأَخْذُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّنَاوُلُ بِالْيَدِ، وَاسْتُعْمِلَ

فِي الْمَعَانِي كَأَخْذِ الْمِيثَاقِ وَالْعَهْدِ وَفِي الْإِهْلَاكِ، وَالصَّيْحَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصَّوْتِ الشَّدِيدِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا صَيْحَةُ الصَّاعِقَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِقَوْمِ صَالِحٍ فَأَحْدَثَتْ رَجْفَةً فِي الْقُلُوبِ وَزَلْزَلَةً فِي الْأَرْضِ، وَصُعِقَ بِهَا جَمِيعُ الْقَوْمِ - فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ - أَيْ: سَاقِطِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ مَصْعُوقِينَ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، شُبِّهُوا بِالطَّيْرِ فِي لُصُوقِهَا بِالْأَرْضِ. يُقَالُ: جَثَمَ الطَّائِرُ وَالْأَرْنَبُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) جُثُومًا، وَهُوَ كَالْبُرُوكِ مِنَ الْبَعِيرِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: - فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ - ٧: ٨٧ إِلَخْ. وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا وَرَدَ مِنَ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِيهَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلُهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>