للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَهُمْ مِنْ فَرِيقِ السُّعَدَاءِ بِاعْتِبَارِ الْخَاتِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالسُّعَدَاءُ دَرَجَاتٌ، وَالْأَشْقِيَاءُ دَرَكَاتٌ.

رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَشْهَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: - فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَعَلَامَ نَعْمَلُ؟ عَلَى

شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ قَالَ: " بَلْ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ يَا عُمَرُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَحَدِيثُ: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ: " مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنَ النَّارِ " فَقَالُوا: أَلَا نَتَّكِلَ؟ قَالَ: " اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَقَرَأَ: - فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - ٩٢: ٥ إِلَخْ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي غَفَلَ عَنْهُ أَوْ جَهِلَهُ الْكَثِيرُونَ عَلَى ظُهُورِهِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَعِلْمُهُ بِأَنَّ زَيْدًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ يَسْتَحِقُّهَا بِهِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيمَا يَعْمَلُهُ فِي الْجَزَاءِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ اللهُ الْمُسْتَقْبَلَ كُلَّهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَأَطْرَافِهِ، وَمِنْهُ عَمَلُ الْعَامِلِينَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْجَزَاءِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ وَكِتَابَتِهِ لِلْمَقَادِيرِ، وَلَا تَنَاقُضَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَنَا مَا نَعْلَمُ بِهِ مَا سَيَكُونُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ بِالْعَمَلِ، وَأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُيَسَّرٌ لَهُ وَمُسَهَّلٌ عَلَيْهِ مَا خَلَقَهُ اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ سَعَادَةِ الْجَنَّةِ وَشَقَاوَةِ النَّارِ، وَأَنَّ مَا وَهَبَهُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْعَزْمِ وَالْإِرَادَةِ يَكُونُ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ مَا يُوَجِّهُهَا بِهِ إِلَى مَا يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ سَعَادَتَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ جَزَاءَ الْفَرِيقَيْنِ بِالتَّفْصِيلِ فَقَالَ:

- فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا - أَيِ الَّذِينَ شَقُوا فِي الدُّنْيَا بِالْفِعْلِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْأَشْقِيَاءِ لِفَسَادِ عَقَائِدِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ بِالتَّقْلِيدِ، حَتَّى أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَاتُهُمْ وَأَطْفَأَتْ نُورَ الْفِطْرَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَفِي النَّارِ مُسْتَقَرُّهُمْ وَمَثْوَاهُمْ، - لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ - مِنْ ضِيقِ أَنْفَاسِهِمْ، وَحَرَجِ صُدُورِهِمْ، وَشِدَّةِ كُرُوبِهِمْ، فَالزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ: صَوْتَانِ يَخْرُجَانِ مِنَ الصَّدْرِ عِنْدَ شِدَّةِ الْكَرْبِ وَالْحُزْنِ فِي بُكَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الزَّفِيرُ إِخْرَاجُ النَّفَسِ وَالشَّهِيقُ رَدُّهُ. قَالَ الشَّمَّاخُ:

بِعِيدٌ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ ... زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرِجُ

وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي الْآيَةِ: فَالزَّفِيرُ تَرَدُّدُ النَّفَسِ حَتَّى تَنْتَفِخَ الضُّلُوعُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>