للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أَيْ رُشْدَهُ وَكَمَالَ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ بِاسْتِكْمَالِ نُمُوِّهِ الْبَدَنِيِّ وَالْعَقْلِ (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) أَيْ وَهَبْنَاهُ حُكْمًا إِلْهَامِيًّا وَعَقْلِيًّا بِمَا يَعْرِضُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ

مِنَ النَّوَازِلِ وَالْمُشْكِلَاتِ مَقْرُونًا بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَعِلْمًا لَدُنِّيًّا وَفِكْرِيًّا بِحَقَائِقِ مَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَهَذِهِ السِّنُّ فِي عُرْفِ الْأَطِبَّاءِ تَتِمُّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلِأَهْلِ اللُّغَةِ وَرُوَاةِ التَّفْسِيرِ فِيهَا أَقْوَالٌ: فَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي كَمَالِ الْبِنْيَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ٤٦: ١٥ فَجَعَلَهَا دَرَجَتَيْنِ: بُلُوغَ الْأَشُدِّ، وَبُلُوغَ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ سِنُّ الِاسْتِوَاءِ. كَمَا قَالَ فِي مُوسَى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ٢٨: ١٤٠ فَالْأَوَّلُ مَبْدَأُ اسْتِكْمَالِ النُّمُوِّ الْعَضَلِيِّ وَالْعَصَبِيِّ وَالثَّانِي مُسْتَوَاهُ، وَبِهِ يَتِمُّ الِاسْتِعْدَادُ لِلنُّبُوَّةِ وَوَحْيِ الرِّسَالَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُلَمَاءِ النَّفْسِ وَالِاجْتِمَاعِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَظْهَرُ اسْتِعْدَادُهُ الْعَقْلِيُّ وَالْعِلْمِيُّ بِالتَّدْرِيجِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ جَدِيدٌ مِنَ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ غَيْرُ مَا يَظْهَرُ مِنْ بَدْءِ سِنِّ التَّمْيِيزِ إِلَى هَذِهِ السِّنِّ، وَإِنَّمَا يُكْمِلُ مَا كَانَ ظَهَرَ مِنْهُ إِذَا هُوَ ظَلَّ مُزَاوِلًا لَهُ وَمُشْتَغِلًا بِتَكْمِيلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ١٠: ١٦ وَفَصَّلْنَاهُ فِي كِتَابِ ((الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ)) وَقَدْ ظَهَرَ حُكْمُ يُوسُفَ وَعِلْمُهُ بَعْدَ بُلُوغِ أَشُدِّهِ فِي مِصْرَ كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوَاضِعِهِ (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أَيْ وَكَذَلِكَ شَأْنُنَا وَسُنَّتُنَا فِي جَزَاءِ الْمُتَحَلِّينَ بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ، الثَّابِتِينَ عَلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ، الَّذِينَ لَمْ يُدَنِّسُوا فِطْرَتَهُمْ وَلَمْ يَدُسُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْإِسَاءَةِ فِي أَعْمَالِهِمْ، نُؤْتِيهِمْ نَصِيبًا مِنَ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْعِلْمِ الَّذِي يُزَيِّنُهُ، وَيُظْهِرُهُ الْقَوْلُ الْفَصْلُ، فَيَكُونُ لِكُلِّ مُحْسِنٍ حَظُّهُ مِنَ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ بِقَدْرِ إِحْسَانِهِ، وَبِمَا يَكُونُ لَهُ مِنْ حُسْنِ التَّأْثِيرِ فِي صَفَاءِ عَقْلِهِ، وَجَوْدَةِ فَهْمِهِ وَفِقْهِهِ، غَيْرَ مَا يَسْتَفِيدُهُ بِالْكَسْبِ مِنْ غَيْرِهِ، لَا يُؤْتَى مِثْلُهُ الْمُسِيئُونَ بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَطَاعَةِ شَهَوَاتِهِمْ. ((وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ ظَاهِرِهِ عَلَى كُلِّ مُحْسِنٍ فَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: كَمَا فَعَلْتُ هَذَا بِيُوسُفَ مِنْ بَعْدِ مَا لَقِيَ مِنْ إِخْوَتِهِ مَا لَقِيَ. . . . . فَكَذَلِكَ أَفْعَلُ بِكَ فَأُنَجِّيكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ الَّذِينَ يَقْصِدُونَكَ بِالْعَدَاوَةِ، وَأُمَكِّنُ لَكَ فِي الْأَرْضِ)) إِلَخْ. وَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ فِي جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ عَامَّةٌ، وَلِكُلِّ مُحْسِنٍ مِنْهَا بِقَدْرِ إِحْسَانِهِ. وَإِذَنْ يَكُونُ حَظُّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمُ مِنْ حَظِّ يُوسُفَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -.

<<  <  ج: ص:  >  >>