للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سَيِّدِي الْمَالِكَ لِرَقَبَتِي قَدْ أَحْسَنَ مُعَامَلَتِي فِي إِقَامَتِي عِنْدَكُمْ وَأَوْصَاكِ بِإِكْرَامِ مَثْوَايَ، فَلَنْ أَجْزِيَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ بِشَرِّ الْإِسَاءَةِ وَهُوَ خِيَانَتُهُ فِي أَهْلِهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ تَعْلِيلٌ لِرَدِّ مُرَاوَدَتِهَا بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ مِنْهَا، لَا تَعْلِيلَ لِلِاسْتِعَاذَةِ نَفْسِهَا كَالْأَوَّلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا دَقِيقٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعُمُومِ فِي الْأَوَّلِ وَالْخُصُوصِ فِي الثَّانِي، ثُمَّ عَلَّلَ امْتِنَاعَهُ بِمَا هُوَ خَاصٌّ بِنَزَاهَةِ نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ كَالْخِيَانَةِ لَهُمْ وَالتَّعَدِّي عَلَى أَعْرَاضِهِمْ وَشَرَفِهِمْ، وَلَا يُفْلِحُونَ فِي الدُّنْيَا بِبُلُوغِ مَقَامِ الْإِمَامَةِ الصَّالِحَةِ وَالرِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ بِجِوَارِ اللهِ وَنَعِيمِهِ وَرِضْوَانِهِ. . . . . . . وَفِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ مِنَ الِاعْتِصَامِ وَالِاعْتِزَازِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ، وَالْأَمَانَةِ لِلسَّيِّدِ صَاحِبِ الدَّارِ، وَالتَّعْرِيضِ بِخِيَانَةِ امْرَأَتِهِ لَهُ الْمُتَضَمِّنِ لِاحْتِقَارِهَا، مَا أَضْرَمَ فِي صَدْرِهَا نَارَ الْغَيْظِ وَالِانْتِقَامِ، مُضَاعَفَةً لِنَارِ الْغَرَامِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ مُؤَكِّدًا بِالْقَسَمِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُنْكِرُهُ الْأَخْيَارُ مِنْ شُرُورِ الْفُجَّارِ.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أَيْ وَتَاللهِ لَقَدْ هَمَّتِ الْمَرْأَةُ بِالْبَطْشِ بِهِ لِعِصْيَانِهِ أَمْرَهَا، وَهِيَ فِي نَظَرِهَا سَيِّدَتُهُ وَهُوَ عَبْدُهَا، وَقَدْ أَذَلَّتْ نَفْسَهَا لَهُ بِدَعْوَتِهِ الصَّرِيحَةِ إِلَى نَفْسِهَا بَعْدَ الِاحْتِيَالِ عَلَيْهِ بِمُرَاوَدَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَمِنْ شَأْنِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ مَطْلُوبَةً لَا طَالِبَةً،

وَمُرَاوَدَةً عَنْ نَفْسِهَا لَا مُرَاوِدَةً، حَتَّى إِنَّ حُمَاةَ الْأُنُوفِ مِنْ كُبَرَاءِ الرِّجَالِ؛ لَيُطَأْطِئُونَ الرُّءُوسَ لِفَقِيرَاتِ الْحِسَانِ رَبَّاتِ الْجَمَالِ، وَيَبْذُلُونَ لَهُمْ مَا يَعْتَزُّونَ بِهِ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ، بَلْ إِنَّ الْمُلُوكَ لِيُذِلُّونِ أَنْفُسَهُمْ لِمَمْلُوكَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَلَا يَأْبَوْنَ أَنْ يَسِمُوا أَنْفُسَهُمْ عَبِيدًا لَهُنَّ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُلُوكِ الْأَنْدَلُسِ:

نَحْنُ قَوْمٌ تُذِيبُنَا الْأَعْيُنُ النُّجْـ ... ـلُ عَلَى أَنَّنَا نُذِيبُ الْحَدِيدَا

فَتَرَانَا لَدَى الْكَرِيهَةِ أَحْرَا ... رًا وَفِي السِّلْمِ لِلْمِلَاحِ عَبِيدًا

وَلَكِنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْعِبْرَانِيَّ الْخَارِقَ لِلطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ، وَفِي جَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَفِي إِبَائِهِ وَتَأَلُّهِهِ، قَدْ عَكَسَ الْقَضِيَّةَ، وَخَرَقَ نِظَامَ الطَّبِيعَةِ وَالْعَوَائِدِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ، فَأَخْرَجَ الْمَرْأَةَ مِنْ طَبْعِ أُنُوثَتِهَا فِي إِدْلَالِهَا وَتَمَنُّعِهَا، وَهَبَطَ بِالسَّيِّدَةِ الْمَالِكَةِ مِنْ عِزَّةِ سِيَادَتِهَا وَسُلْطَانِهَا، وَدَهْوَرَ الْأَمِيرَةَ (الْأُرُسْتُقْرَاطِيَّةَ) مِنْ عَرْشِ عَظَمَتِهَا وَتَكَبُّرِهَا، وَأَذَلَّهَا لِعَبْدِهَا وَخَادِمِهَا، وَبِمَا هَوَّنَهُ عَلَيْهَا: قُرْبُ الْوِسَادِ، وَطُولُ السَّوَادِ وَالْخُلْوَةُ مِنْ وَرَاءِ الْأَسْتَارِ وَالْأَبْوَابِ، حَتَّى إِنَّهَا لَتُرَاوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ فِي مَخْدَعِ دَارِهَا، فَيَصُدُّ عَنْهَا عُلُوًّا وَنِفَارًا، ثُمَّ تُصَارِحُهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى نَفْسِهَا فَيَزْدَادُ عُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا، مُعْتَزًّا عَلَيْهَا بِالدِّيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الْخِيَانَةِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>