للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَهُوَ فَرْعُ مَعْرِفَتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ سَمَّاهُ تَأْوِيلًا مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ لِمَا سَأَلَاهُ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَاهُمَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ: لَا تَرَيَانِ فِي النَّوْمِ طَعَامًا يَأْتِيكُمَا إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَنْ قَلَّدَهُ ((تَأْوِيلَهُ)) (بِبَيَانِ مَا هَيْئَتُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ تَفْسِيرَ الْمُشْكَلِ وَالْإِعْرَابَ عَنْ مَعْنَاهُ) اهـ. وَهُوَ تَكَلُّفٌ سَرَى إِلَيْهِ مِنْ مَفْهُومِ التَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ لَا مِنْ صَمِيمِ اللُّغَةِ (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي أُنَبِّئُكُمَا بِهِ بَعْضَ مَا عَلَّمَنِي رَبِّي بِوَحْيٍ مِنْهُ إِلَيَّ، لَا بِكِهَانَةٍ وَلَا عِرَافَةٍ وَلَا تَنْجِيمٍ، وَلَا مَا يُشْبِهُهَا مِنْ طُرُقٍ صِنَاعِيَّةٍ أَوْ تَعْلِيمٍ بَشَرِيٍّ يَلْتَبِسُ بِهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَيَشْتَبِهُ الصَّوَابُ بِالْخَطَأِ، فَهُوَ آيَةٌ، كَقَوْلِ عِيسَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِهِ: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) ٣: ٤٩.

(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا كَمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، أَيْ: تَرَكْتُ دُخُولَهَا وَاتِّبَاعَ أَهْلِهَا مِنْ عَابِدِي الْأَوْثَانِ الْمُنْتَحِلَةِ عَلَى كَثْرَةِ أَهْلِهَا وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) ٧٥: ٣٦؟ أَيْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُبْعَثُ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ سُدًى قَبْلَهُ، فَتَرْكُ الشَّيْءِ يَصْدُقُ بِعَدَمِ مُلَابَسَتِهِ مُطْلَقًا، وَبِالتَّحَوُّلِ عَنْهُ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ أَوْ كِلَيْهِمَا كَمَا هُنَا.

وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ: الْكَنْعَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سُكَّانِ أَرْضِ الْمِيعَادِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا، وَالْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ هُوَ فِيهِمْ وَبَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً مَعْرُوفَةً فِي التَّارِيخِ، أَعْظَمُهَا الشَّمْسُ وَاسْمُهَا عِنْدَهُمْ (رَعْ) وَمِنْهَا

فَرَاعِنَتُهُمْ وَالنَّيْلُ وَعِجْلُهُمْ (أَبِيسُ) وَإِنَّمَا كَانَ التَّوْحِيدُ خَاصًّا بِحُكَمَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) أَيْ وَهُمُ الْآنَ يَكْفُرُونَ بِالْمَعْنَى الصَّحِيحِ لِلْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْمِصْرِيِّينَ وَإِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ فَشَا فِيهِمْ تَصْوِيرُ هَذَا الْإِيمَانِ بِصُوَرٍ مُبْتَدَعَةٍ، وَمِنْهَا أَنَّ فَرَاعِنَتَهُمْ يَعُودُونَ إِلَى الْحَيَاةِ الْأُخْرَى بِأَجْسَادِهِمُ الْمُحَنَّطَةِ وَيَعُودُ لَهُمُ السُّلْطَانُ وَالْحُكْمُ، وَلِهَذَا كَانُوا يَدْفِنُونَ أَوْ يَضَعُونَ مَعَهُمْ جَوَاهِرَهُمْ وَغَيْرَهَا، وَيَبْنُونَ الْأَهْرَامَ لِحِفْظِ جُثَثِهِمْ وَمَا مَعَهَا، وَلَعَلَّهُ لِهَذَا أَكَّدَ الْحُكْمَ بِالْكُفْرِ بِهَا بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ ((هُمْ)) لِيُبَيِّنَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِالْآخِرَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ.

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي) أَنْبِيَاءِ اللهِ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى تَوْحِيدِهِ الْخَالِصِ، وَبَيَّنَ أَسْمَاءَهُمْ مِنَ الْأَبِ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى بِقَوْلِهِ: (إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) فَلَفْظُ الْآبَاءِ يَشْمَلُ الْجُدُودَ وَإِنْ عَلَوْا، وَبَيَّنَ أَسَاسَ مِلَّتِهِمُ الَّتِي اتَّبَعَهَا وِرَاثَةً وَتَلْقِينًا فَكَانَتْ يَقِينًا لَهُ وَلَهُمْ وَوِجْدَانًا، بِقَوْلِهِ مَا كَانَ لَنَا أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِنَا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا مِمَّا يَقَعُ مِنَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>