للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَمْ يَقْتَصِرْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذِكْرِ الْمَالِ فَقَطْ إِلَّا مُفَسِّرُنَا وَقَوْلُهُ صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرُوهُ وَجْهًا، وَذَكَرُوا مَعَهُ قَوْلَ مَنْ قَيَّدَهُ بِالْكَثِيرِ كَالْبَيْضَاوِيِّ، وَجَزَمَ الْمُفَسِّرُ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ ((لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)) وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ ; فَكَلَامُ الْجَلَالَيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنَّنِي أُفَصِّلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا، وَأَشْرَحُ اسْتِدْلَالَهُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ: -

أَمَّا الْأُولَى فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْمَالَ لَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ خَيْرًا إِلَّا إِذَا كَانَ كَثِيرًا، كَمَا لَا يُقَالُ فُلَانٌ ذُو مَالٍ إِلَّا إِذَا كَانَ مَالُهُ كَثِيرًا وَإِنْ تَنَاوَلَ اللَّفْظُ صَاحِبَ الْمَالِ الْقَلِيلِ، وَأَيَّدُوا هَذَا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَ لَهَا رَجُلٌ: أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ. قَالَتْ: كَمْ مَالُكَ؟ قَالَ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ. قَالَتْ: كَمْ عِيَالُكَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ. قَالَتْ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) وَهَذَا شَيْءٌ يَسِيرٌ فَاتْرُكْهُ لِعِيَالِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عَلِيًا دَخَلَ عَلَى مَوْلًى لَهُ فِي الْمَوْتِ وَلَهُ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: أَلَا أُوصِي؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) وَلَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مَالٍ فَدَعْ مَالَكَ لِوَرَثَتِكَ - فَعِبَارَتُهُمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا الْمَالَ الْكَثِيرَ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ الْكَثِيرِ فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَمْ يَتْرُكْ سِتِّينَ دِينَارًا لَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَدَمَ تَقْدِيرِهِ لِاخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ، فَهُوَ مَوْكُولٌ عِنْدَهُ إِلَى اعْتِقَادِ الشَّخْصِ وَحَالِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعُرْفَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْبُيُوتِ، فَمَنْ يَتْرُكْ سَبْعِينَ دِينَارًا فِي مَنْزِلٍ فَقْرٍ، وَبَلَدٍ قَفْرٍ، وَهُوَ مِنَ الدَّهْمَاءِ فَقَدْ تَرَكَ خَيْرًا. وَلَكِنَّ الْأَمِيرَ أَوِ الْوَزِيرَ، إِذَا تَرَكَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ فَهُمَا لَمْ يَتْرُكَا إِلَّا الْعَدَمَ وَالْفَقْرَ، وَمَا لَا يَفِي بِتَجْهِيزِهِمَا إِلَى الْقَبْرِ.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَهِيَ خِلَافِيَّةٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ أَوْ بِحَدِيثِ ((لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)) أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مُبَيِّنٌ لِلْآيَةِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ:

وَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((إِنَّ اللهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)) وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ لَا تُعَارِضُهُ، بَلْ تُؤَكِّدُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا، وَالْحَدِيثُ مِنَ الْآحَادِ، وَتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ لَا يُلْحِقُهُ بِالْمُتَوَاتِرِ اهـ. أَيْ وَالظَّنِّيُّ مِنَ الْحَدِيثِ لَا يَنْسَخُ الْقَطْعِيَّ مِنْهُ فَكَيْفَ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ وَكُلُّهُ قَطْعِيٌّ؟ وَقَدْ زَادَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ هُنَا، وَبِأَنَّ السِّيَاقَ يُنَافِي النَّسْخَ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا شَرَعَ لِلنَّاسِ حُكْمًا وَعَلِمَ أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ وَأَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ بَعْدَ زَمَنٍ قَرِيبٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤَكِّدُهُ وَيُوَثِّقُهُ بِمِثْلِ مَا أَكَدَّ بِهِ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ هُنَا مِنْ كَوْنِهِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَمِنْ وَعِيدِ مَنْ بَدَّلَهُ، وَبِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>