للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الصِّيَامَ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَيْنَا مُعَيَّنٌ مَحْدُودٌ فَقَالَ: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) أَيْ: مُعَيَّنَاتٍ بِالْعَدَدِ، أَوْ قَلِيلَاتٍ وَهِيَ أَيَّامُ رَمَضَانَ كَمَا سَيَأْتِي، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ، وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ غَيْرُ رَمَضَانَ، وَهِيَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَعَيَّنَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا الْأَيَّامُ الْبِيضُ أَيِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَمَا بَعْدَهُ ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ (شَهْرُ رَمَضَانَ) الْآتِيَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي السُّنَّةِ أَنَّ الصَّوْمَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ، وَلَوْ وَقَعَ لِنُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ الْعَامَّةِ. نَعَمْ ; وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ الْآحَادِيِّ أَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ فِي صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ، بَعْضُهَا بِالْأَمْرِ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَبَعْضُهَا بِالتَّخْيِيرِ، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا عَامًّا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَا عَلَى أَنَّهُ نُسِخَ، فَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَصُومُونَهُ اسْتِحْبَابًا مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، بَلْ يَدُلُّ حَدِيثُ ((لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ مِنَ التَّاسِعِ)) مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ مِنْ سَنَتِهِ تِلْكَ، عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ كَانَ فِي آخِرِ زَمَنِ الْبَعْثَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلُّ تَمْحِيصِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا، وَلَكِنْ كَانَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَلَعٌ بِتَكْثِيرِ اسْتِخْرَاجِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى سِعَةِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ عِلْمًا بِإِبْطَالِ الْقُرْآنِ بَادِي الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ تُضَاهِي حُجَّةَ الْقُرْآنِ فِي الْقَطْعِ وَالْقُوَّةِ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْسَبَ هَذَا هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدُ اللهِ عَظِيمٌ.

(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أَيْ: مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ صِيَامُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ غَيْرِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ ; أَيْ: فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذَا أَفْطَرَ بِعَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي لَمْ يَصُمْهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ عُرْضَةٌ لِاحْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ بِالصِّيَامِ، وَإِطْلَاقِ كَلِمَةِ (مَرِيضًا) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَقَيَّدُ بِالْمَرَضِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَعْسُرُ مَعَهُ الصَّوْمُ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ; لِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ تُقْرَنُ بِمَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ تَحْقِيقًا لِلرُّخْصَةِ، فَرُبَّ مَرَضٍ لَا يَشُقُّ مَعَهُ الصَّوْمُ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ ضَارًّا بِالْمَرِيضِ وَسَبَبًا فِي زِيَادَةِ مَرَضِهِ وَطُولِ مُدَّتِهِ، وَتَحْقِيقُ الْمَشَقَّةِ عُسْرٌ، وَعِرْفَانُ الضَّرَرِ أَعْسَرُ. وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى

تَقْيِيدِهِ بِالْمَرَضِ الَّذِي يَعْسُرُ الصَّوْمُ مَعَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وَلَا دَلِيلَ فَإِنَّهُ تَعْلِيلٌ لِأَصْلِ الرُّخْصَةِ، وَكَمَالُهَا أَلَّا يَكُونَ فِيهَا تَضْيِيقٌ.

وَكَذَلِكَ السَّفَرُ يَشْمَلُ إِطْلَاقُهُ وَتَنْكِيرُهُ الطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ وَسَفَرَ الْمَعْصِيَةِ. فَالْعُمْدَةُ فِيهِ مَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ سَفَرًا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ فِي الشَّرْعِ. وَالْعُرْفُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ وَوَسَائِلِ النَّقْلِ، فَالَّذِي يَرْكَبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ سَيَّارَةً بُخَارِيَّةً أَوْ طَيَّارَةً هَوَائِيَّةً مَسَافَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ فَرَاسِخَ أَوْ مَسَافَةَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ بِتَقْدِيرِ سَيْرِ الْأَثْقَالِ لِيَمْكُثَ مُدَّةً قَصِيرَةً ثُمَّ يَعُودُ إِلَى بَلَدِهِ وَدَارِهِ، وَلَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ مُسَافِرًا بَلْ مُتَنَزِّهًا. وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْإِطْلَاقَ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>