للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، بِالرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ لِلْأَنَامِ، الدَّائِمَةِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ ; فَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِيهِ بَدْؤُهُ وَأَوَّلُهُ (هُدًى لِلنَّاسِ) أَيْ: أُنْزِلَ حَالَ كَوْنِهِ هُدًى كَامِلًا لِلنَّاسِ كَافَّةً (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى) أَيْ: وَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ

وَاضِحَاتٍ لَا لَبْسَ فِي حَقِّيَّتِهَا، وَلَا خَفَاءَ فِي حُكْمِهَا وَأَحْكَامِهَا، مِنْ جِنْسِ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ، وَلَكِنَّهُ أَبْيَنُهُ وَأَكْمَلُهُ (وَالْفُرْقَانِ) الَّذِي يُفَرِّقُ لِلْمُهْتَدِي بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَ الْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ، فَحُقَّ أَنْ يُعْبَدَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مَا لَا يُعْبَدُ فِي غَيْرِهِ تَذَّكُّرًا لِإِنْعَامِهِ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ وَشُكْرًا عَلَيْهَا. وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْأَيَّامِ مُبْهَمَةً أَوَّلًا وَتَعْيِينِهَا بَعْدَ ذَلِكَ: أَنَّ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ الَّذِي يُشْعِرُ بِالْقِلَّةِ يُخَفِّفُ وَقْعَ التَّكْلِيفِ بِالصِّيَامِ الشَّاقِّ عَلَى النُّفُوسِ وَهُوَ الْأَصْلُ ; إِذْ لَيْسَ رَمَضَانُ عَامًّا فِي الْأَرْضِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّعْيِينَ وَالْبَيَانَ بَعْدَ ذِكْرِ حِكْمَةِ الصِّيَامِ وَفَائِدَتِهِ وَذِكْرِ الرُّخَصِ لِمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَذِكْرِ خَيْرِيَّةِ الصِّيَامِ فِي نَفْسِهِ وَاسْتِحْبَابِ التَّطَوُّعِ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُعِدُّ النَّفْسَ لِأَنْ تَتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَالرِّضَى جَعْلَ تِلْكَ الْأَيَّامِ شَهْرًا كَامِلًا.

وَانْظُرْ كَيْفَ ابْتَدَأَ هُنَا بِذِكْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَوَصْفِ الْقُرْآنِ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَحْكِي عَنْهُ لَذَّاتِهِ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ حُكْمِ الصَّوْمِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْأَمْرِ فَلَمْ يُفَاجِئِ النُّفُوسَ بِهِ مَعَ ذَلِكَ التَّمْهِيدِ لَهُ حَتَّى قَدَّمَ الْعِلَّةَ عَلَى الْمَعْلُولِ، وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ حِكْمَةِ حَذْفِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ كَلِمَةَ (شَهْرُ رَمَضَانَ) مُبْتَدَأٌ، أَوْ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ حَذْفَ الْخَبَرِ جَارٍ عَلَى مَا نَعْهَدُهُ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ بِحَذْفِ مَا لَا يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ بِحَذْفِهِ، وَإِنَّ الْبَيَانَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِهِ فِي ذِكْرِ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّتَهَا وَحِكْمَتَهَا، وَهِيَ هُنَا إِنْزَالُ الْقُرْآنِ الَّذِي هَدَانَا اللهُ تَعَالَى بِهِ وَجَعَلَهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى ; أَيْ: مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَالْفُرْقَانُ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ هُدًى فِي نَفْسِهِ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ الْجِنْسُ الْعَالِي عَلَى جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ، فَإِنَّهُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مِنْ ذَلِكَ الْهُدَى السَّمَاوِيِّ، وَكُتُبُ اللهِ كُلُّهَا هُدًى وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ فِي بَيَانِهَا كَالْقُرْآنِ، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا كِتَابَ دَانْيَالَ النَّبِيِّ فَإِنَّ اللهَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا لِيَهْتَدِيَ بِهِ مَنْ يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، بَلْ هُوَ كَالْأَلْغَازِ وَالرُّمُوزِ لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِعَنَاءٍ، وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ الَّتِي سَمَّاهَا اللهُ تَعَالَى (نُورًا وَهُدًى) (٦: ٩١) فِيهَا غَوَامِضُ وَمُشْكِلَاتٌ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِيهَا، فَلَمْ يَكُنْ ضِيَاءُ الْحَقِّ وَالْهِدَايَةِ مُتَبَلِّجًا

وَسَاطِعًا مِنْ سُطُورِهَا سُطُوعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالَّذِي نَرَاهُ فِي الْأَنَاجِيلِ أَنَّ تَلَامِيذَ الْمَسِيحِ أَنْفُسَهُمْ مَا كَانُوا يَفْهَمُونَ كُلَّ مَا يُخَاطِبُهُمْ بِهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ وَالْبَشَائِرِ وَهِيَ الْإِنْجِيلُ الْحَقِيقِيُّ فِي اعْتِقَادِنَا.

أَقُولُ: بَلْ فِيهَا أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لَهُمْ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنَّ ثَمَّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً يَنْبَغِي أَنْ تُقَالَ لَهُمْ ; أَيْ: لَوْلَا الْمَوَانِعُ مِنْهَا فِي عَهْدِهِ، وَبَشَّرَهُمْ بِأَنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهُ الْفَارِقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>