للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَرْدِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَحْكَامِ الصِّيَامِ - وَفِيهَا حُكْمُ أَكْلِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ - مَهَّدَ لِحُكْمِ أَكْلِ مَالِ غَيْرِهِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ الْعَامَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ قُرْبِهَا ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)

الْخِطَابُ لِعَامَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْمُرَادُ لَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ، وَاخْتَارَ لَفْظَ (أَمْوَالَكُمْ) وَهُوَ يَصْدُقُ بِأَكْلِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ لِلْإِشْعَارِ بِوَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ احْتِرَامَ مَالِ غَيْرِكَ وَحِفْظَهُ هُوَ عَيْنُ الِاحْتِرَامِ وَالْحِفْظِ لِمَالِكِ ; لِأَنَّ اسْتِحْلَالَ التَّعَدِّي وَأَخْذِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ يُعَرِّضُ كُلَّ مَالٍ لِلضَّيَاعِ وَالذَّهَابِ، فَفِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ الْبَلِيغَةِ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَبَيَانٌ لِحِكْمَةِ الْحُكْمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى نَفْسِ الْآكِلِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي هُوَ أَحَدُ أَعْضَائِهَا ; لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ سَهْمٌ مِنْ كُلِّ جِنَايَةٍ تَقَعُ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِاسْتِحْلَالِهِ مَالَ غَيْرِهِ يُجَرِّئُ غَيْرَهُ عَلَى اسْتِحْلَالِ أَكْلِ مَالِهِ عِنْدَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَمَا أَبْلَغَ هَذَا الْإِيجَازَ! وَمَا أَجْدَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِوَصْفِ الْإِعْجَازِ! .

وَفِي الْإِضَافَةِ مَعْنًى آخَرُ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُنْفِقَ مَالَ نَفْسِهِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَأَلَّا يُضَيِّعَهُ فِي سَبِيلِ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمَةِ، وَنَظَرَ فِيهِ آخَرٌ بِمَا رَضِيَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ فِي ذَاتِهِ وَلَكِنَّ فَهْمَهُ مِنَ الْآيَةِ بَعِيدٌ لِقَوْلِهِ: (بَيْنَكُمْ) فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَقَعُ بِهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ مُطْلَقُ الْأَخْذِ، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْأَخْذِ بِالْأَكْلِ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، تَجَوَّزُوا فِيهِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَمَنْشَؤُهُ أَنَّ الْأَكْلَ أَعَمُّ الْحَاجَاتِ مِنَ الْمَالِ وَأَكْثَرُهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يُفَضِّلُ غَيْرَ الْأَكْلِ مِنَ الْأَهْوَاءِ يُنْفِقُ فِيهِ الْمَالَ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَنْفِي أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْأَكْلِ وَتَقْوِيمِ الْبِنْيَةِ أَعْظَمُ وَأَعَمُّ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ أَكَلُ الْمَالِ فِي مَقَامِ أَخْذِهِ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ.

وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ حَقِيقِيٍّ، وَهُوَ مِنَ الْبَطْلِ وَالْبُطْلَانِ ; أَيِ الضَّيَاعِ وَالْخَسَارِ، فَقَدْ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ أَخْذَ الْمَالِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ حَقِيقِيَّةٍ يُعْتَدُّ بِهَا، وَرِضَاءِ مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إِنْفَاقَهُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ حَقِيقِيٍّ نَافِعٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>