للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا إِلَّا غِرٌّ جَاهِلٌ، أَوْ عَدُوٌّ مُتَجَاهِلٌ. ثُمَّ زَادَ التَّعْلِيلَ بَيَانًا فَقَالَ: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أَيْ: إِنَّ فِتْنَتَهُمْ إِيَّاكُمْ فِي الْحَرَمِ عَنْ دِينِكُمْ بِالْإِيذَاءِ وَالتَّعْذِيبِ، وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْوَطَنِ، وَالْمُصَادَرَةِ فِي الْمَالِ، أَشَدُّ قُبْحًا مِنَ الْقَتْلِ ; إِذْ لَا بَلَاءَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَشَدُّ مِنْ إِيذَائِهِ وَاضْطِهَادِهِ وَتَعْذِيبِهِ عَلَى اعْتِقَادِهِ الَّذِي تَمَكَّنَ مِنْ عَقْلِهِ وَنَفْسِهِ، وَرَآهُ سَعَادَةً لَهُ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ. وَالْفِتْنَةُ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرٌ، فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِذَا أَذَابَهُمَا بِالنَّارِ لِيَسْتَخْرِجَ الزَّغَلَ مِنْهُمَا. وَيُسَمَّى الْحَجَرُ الَّذِي يَخْتَبِرُهُمَا بِهِ أَيْضًا فَتَّانَةً (كَجَبَّانَةٍ) ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ الْفِتْنَةُ فِي كُلِّ اخْتِبَارٍ شَاقٍّ، وَأَشَدُّهُ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ وَعَنِ الدِّينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (٢٩: ٢) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَمَا تَقَرَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) (٢٢: ٣٩، ٤٠) الْآيَاتُ. وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَرْعِ الْقِتَالِ مُعَلَّلًا بِسَبَبِهِ مُقَيَّدًا بِشُرُوطِهِ الْعَادِلَةِ.

وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْفِتْنَةَ هُنَا وَفِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بِالشِّرْكِ وَجَرَى عَلَيْهِ (الْجَلَالُ) ، وَرَدَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ يُخْرِجُ الْآيَاتِ عَنْ سِيَاقِهَا، وَذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا بِصِيغَةِ التَّضْعِيفِ. (قِيلَ) : وَرَدَّ قَوْلَهُمْ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَبُرَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ بِالْقِتَالِ مَشْرُوطًا لِاعْتِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِأَجْلِ أَمْنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ. وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ وَقِصَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا مَعْنَى لِكَوْنَ بَعْضِهَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ، وَأَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْعُمُومَاتِ فِيهَا بِحُكْمِ أَنَّ الْقُرْآنَ شَرْعٌ ثَابِتٌ عَامٌّ فَذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ.

ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أُدْرِكُوا فِيهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَقَالَ: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) أَيْ: إِنَّ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يَكُونُ آمِنًا، إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ هُوَ فِيهِ وَيَنْتَهِكَ حُرْمَتَهُ فَلَا أَمَانَ حِينَئِذٍ. وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَمْرًا عَظِيمًا يُتَحَرَّجُ مِنْهُ أَكَّدَ الْإِذْنَ فِيهِ بِشَرْطِهِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِمَا فُهِمَ مِنَ الْغَايَةِ فَقَالَ: (فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) وَلَا تَسْتَسْلِمُوا لَهُمْ، فَالْبَادِئُ هُوَ الظَّالِمُ، وَالْمُدَافِعُ غَيْرُ آثِمٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>