للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَمَّا خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّسُكِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَقَاتَلُوهُمْ رَمْيًا بِالسِّهَامِ وَالْحِجَارَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ سَنَةَ سِتٍّ، وَلَوْ قَابَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَامَئِذٍ بِالْمِثْلِ وَلَمْ يَرْضَ النَّبِيُّ بِالصُّلْحِ لَاحْتَدَمَ الْقِتَالُ، وَلَمَّا خَرَجُوا فِي الْعَامِ الْآخَرِ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَكَرِهُوا قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنِ اعْتَدَوْا وَنَكَثُوا الْعَهْدَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْمَحْظُورَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِنَّمَا هُوَ الِاعْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ دُونَ الْمُدَافَعَةِ، وَأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْفِتْنَةِ وَإِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ - لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ - هُوَ أَشَدُّ قُبْحًا مِنَ الْقَتْلِ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ مَنْعُهُمُ الْحَقَّ وَتَأْيِيدُهُمُ الشِّرْكَ. ثُمَّ بَيَّنَ قَاعِدَةً عَظِيمَةً وَهِيَ أَنَّ الْحُرُمَاتِ - أَيْ: مَا يَجِبُ احْتِرَامُهُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ - يَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الْقِصَاصِ وَالْمُسَاوَاةُ فَقَالَ:

(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ حُجَّةً لِوُجُوبِ مُقَاصَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى انْتِهَاكِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِمُقَابَلَتِهِمْ بِالْمَثْلِ، لِيَكُونَ شَهْرٌ بِشَهْرٍ جَزَاءً وِفَاقًا.

وَفِي جُمْلَةِ (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) مِنَ الْإِيجَازِ مَا تَرَى حُسْنَهُ وَإِبْدَاعَهُ. ثُمَّ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُعْتَدِي مَعَ مُرَاعَاةِ الْمُمَاثَلَةِ - وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ مِمَّا قَبْلَهُ - لِمَكَانِ كَرَاهَتِهِمْ لِلْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَالَ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَاعِدَةِ وَتَأْيِيدًا لِلْحُكْمِ: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِيمَا تَتَأَتَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَسَمَّى الْجَزَاءَ اعْتِدَاءً لِلْمُشَاكَلَةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْقَاتِلِ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ بِأَنْ يُذْبَحَ إِذَا ذَبَحَ، وَيُخْنَقَ إِذَا خَنَقَ، وَيُغْرَقَ إِذَا أَغْرَقَ، وَهَكَذَا. وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْغَصْبِ

وَالْإِتْلَافِ. وَالْقَصْدُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ عَلَى قَدْرِ الِاعْتِدَاءِ بِلَا حَيْفٍ وَلَا ظُلْمٍ، وَأَزْيَدُ عَلَى هَذَا مَا هُوَ أَوْلَى بِالْمَقَامِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ كَقَتْلِ الْمُجْرِمِينَ بِلَا ضَعْفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، فَالْمُقَاتِلُ بِالْمَدَافِعِ وَالْقَذَائِفِ النَّارِيَّةِ أَوِ الْغَازِيَةِ السَّامَّةِ يَجِبُ أَنْ يُقَاتَلَ بِهَا، وَإِلَّا فَاتَتِ الْحِكْمَةُ لِشَرْعِيَّةِ الْقِتَالِ وَهِيَ مَنْعُ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ، وَتَقْرِيرُ الْحُرِّيَّةِ وَالْأَمَانِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَالْآدَابُ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ شَرْحِ الْقِصَاصِ وَالْمُمَاثَلَةِ: (وَاتَّقُوا اللهَ) فَلَا تَعْتَدُوا عَلَى أَحَدٍ وَلَا تَبْغُوا وَلَا تَظْلِمُوا فِي الْقِصَاصِ بِأَنْ تَزِيدُوا فِي الْإِيذَاءِ. وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِمَا بَيَّنَ مِنْ مَزِيَّتِهَا وَفَائِدَتِهَا فَقَالَ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بِالْمَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ، فَإِنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَبَقَاؤُهُ هُوَ الْأَصْلَحُ، وَالْعَاقِبَةُ لَهُ فِي كُلِّ مَا يُنَازِعُهُ بِهِ الْبَاطِلُ ; لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ التَّقْوَى اتِّقَاءَ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ.

وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ - وَهُوَ الْقِتَالُ - يَتَوَقَّفُ عَلَى الْجِهَادِ بِالْمَالِ، أَمَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى (قَاتِلُوا) رَابِطٌ لِأَحْكَامِ الْقِتَالِ وَالْحَجِّ بِحُكْمِ الْأَمْوَالِ السَّابِقِ، فَهُنَاكَ ذَكَرَ مَا يَحْرُمُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ مُجْمَلًا، وَهَاهُنَا ذَكَرَ مَا يَجِبُ مِنْ إِنْفَاقِهِ مِنْهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>