للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي حَجِّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ تَمَتُّعًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ إِفْرَادًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ

قِرَانًا، وَقَدْ جَمَعَ الْمُحَدِّثُونَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِوُجُوهٍ، أَقْوَاهَا وَأَجْمَعُهَا أَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ فَصَارَ قِرَانًا، فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالْإِفْرَادِ عَلَى مَا أَهَلَّ بِهِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالْقِرَانِ عَلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عَمَلُهُ مِنْ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ يَتَنَاوَلُ الْقِرَانَ، فَتُحْمَلُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَجَّ تَمَتُّعًا فَتَصِحُّ جَمِيعُ الرِّوَايَاتِ. وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ أَنَّ حَجَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قِرَانًا، وَلِذَلِكَ فَضَّلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْقِرَانَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ وَاحْتَجُّوا لَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مَنَ الْيَمَنِ وَمَعَهُ هَدْيٌ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيُحِلُّوا إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ. وَحَكَى اسْتِنْكَارَهُمْ وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدًّا عَلَيْهِمْ: ((لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيُ لَأَحْلَلْتُ)) وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ الْأَفْضَلَ التَّمَتُّعُ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ لَا مُطْلَقًا. وَقَالَ ابْنُ الْقِيَمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: أَفْتَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَوَازِ فَسْخِهِمُ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَفْتَاهُمْ بِفِعْلِهِ حَتْمًا وَلَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَدِينُ لِلَّهِ بِهِ: أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ أَقْوَى وَأَصَحُّ مِنَ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صِحَّةً لَا شَكَّ فِيهَا أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ وَمَنْ أَهْدَى فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ مَعَ عُمْرَةٍ)) وَالْمُرَادُ بِسَوْقِ الْهَدْيِ: أَخْذُهُ إِلَى الْحَرَمِ، وَمِنَ الْإِهْلَالِ: الْإِحْرَامُ، وَإِذَا كَانَ سَوْقُ الْهَدْيِ فِي هَذَا الزَّمَانِ شَاقًّا عَلَى حُجَّاجِ الْآفَاقِ وَكَثِيرَ النَّفَقَةِ إِلَّا عَلَى أَهْلِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْمُجَاوِرِينَ لِلْحِجَازِ فَأَكْثَرُ النَّاسِ يُحْرِمُونَ بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا، وَبَعْدَ أَدَاءِ أَرْكَانِهَا يَتَحَلَّلُونَ مِنْهَا بِمَكَّةَ، ثُمَّ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ قَبْلَ عَرَفَةَ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فِي الْغَالِبِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِيَوْمِ التَّرْوِيَةِ الَّذِي يَخْرُجُونَ فِيهِ إِلَى عَرَفَاتٍ.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْحَجُّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ الْحَجُّ أَشْهُرٌ يَعْلَمُهَا النَّاسُ، وَهِيَ شَوَّالُ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ ; أَيْ: إِنَّهُ يُؤَدَّى فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>