للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَا تَوَعَّدَ اللهُ بِهِ الْمُجْرِمِينَ فِيهَا فَيَلْجَأُ إِلَيْهِ تَعَالَى بِأَنْ يَقِيَهُ شَرَّهُ، فَحِرْمَانُ هَذَا الْفَرِيقِ مِنْ خَلَاقِ الْآخِرَةِ هُوَ أَثَرُ كَسْبِهِ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِ، وَتَفْضِيلِهِ حُظُوظَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ عَلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ ; لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لِلْأُولَى كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ أَسْبَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَسْأَلُ رَبَّهُ إِلَّا الْمَزِيدَ مِنْ حُظُوظِهَا وَشَهَوَاتِهَا. وَقَدْ يَنَالُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِدُونِ هَمٍّ كَبِيرٍ فِي الْعَمَلِ لَهَا، وَلَا يَعْمَلُ لِلْآخِرَةِ وَقَدِ اشْتُرِطَ لِسَعَادَتِهَا خَيْرَ الْعَمَلِ، فَقَالَ تَعَالَى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (١٧: ١٨، ١٩) الْآيَاتُ. وَبِاللهِ مَا أَبْلَغَ حَذْفَ مَفْعُولِ (آتِنَا) فِي هَذَا الْمَقَامِ فَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ الْإِيجَازِ الَّتِي تَحَارُ فِيهَا الْأَفْهَامُ، وَتَعْجَزُ عَنْهَا قَرَائِحُ الْأَنَامِ، فَإِنَّهُ بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعُمُومِ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُعْنَى بِهِ أَفْرَادُ هَؤُلَاءِ النَّاسِ الْمُتَفَاوَتِي الْهِمَمِ الْمُخْتَلِفِي الْأَهْوَاءِ مِنَ

الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ، حُسْنِهَا وَقَبِيحِهَا، خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، كَبِيرِهَا وَخَسِيسِهَا، وَمَا لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ مِنْهَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْفَرِيقِ فَقِيلَ: هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ مِنْ دُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ بِحُظُوظِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَمْ تَمَسَّ أَسْرَارُ الدِّينِ وَحِكَمُهُ قُلُوبَهُمْ، وَلَمْ تُشْرِقْ أَنْوَارُ هِدَايَتِهِ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، بَلِ اكْتَفَوْا بِالتَّقْلِيدِ فِي رُسُومِهِ الظَّاهِرَةِ، فَكَانَ هَمُّهُمْ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، وَذَكَرُوا هُنَا مَا رُوِيَ فِي الْمَرْفُوعِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِمَنْ لَا خَلَاقَ لَهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ رَأْيِهِمْ بِالسِّيَاقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مَوْجُودٌ فِي الْمُسْلِمِينَ كَمَا وُجِدَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَمَنْ بَلَا النَّاسَ وَفَلَّاهُمْ عَرَفَ ذَلِكَ.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أَيْ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا، لَا حُظُوظَ الدُّنْيَا وَحْدَهَا كَيْفَمَا كَانَتْ كَالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ الْحَسَنَةِ هَلْ هِيَ الْعَافِيَةُ أَوِ الْكَفَافُ أَوِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ أَوِ الْأَوْلَادُ الْأَبْرَارُ أَوِ الْمَالُ الصَّالِحُ أَوِ الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ أَوِ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ، وَرُوِيَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَلَعَلَّ كُلَّ ذِي قَوْلٍ يُطْلِقُهَا عَلَى الْمُهِمِّ عِنْدَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ (حَسَنَةً) وَصْفٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ حَيَاةً حَسَنَةً، وَانْظُرْ بِمَ تَكُونُ حَيَاةُ الْمَرْءِ حَسَنَةً فَيَكُونُ سَعِيدًا فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ دَعَا اللهَ تَعَالَى دُعَاءً إِجْمَالِيًّا فَلْيَدْعُهُ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِيهِمَا يَكُنْ مُهْتَدِيًا بِالْآيَةِ. وَمَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ خَاصَّةٌ فَدَعَاهُ لَهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَسَنَةٌ فَهُوَ مُهْتَدٍ بِهَا، عَلَى أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حَسَنَةِ الْآخِرَةِ أَيْضًا فَقِيلَ: الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: الرُّؤْيَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَذَابِ النَّارِ، وَرَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ الْمَرْأَةُ السُّوءُ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (٢: ١٨٦) أَنَّ الطَّلَبَ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَكُونُ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>