للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنَّ مَنْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ بِأَنَّهُمْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ وَآثَرُوا الشَّهَادَةَ فِي الْقِتَالِ عَلَى الْغَنِيمَةِ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ اللهَ؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ أَكْثَرَ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَلْ يَدَّعِي ذَلِكَ الصُّوفِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْغُلَاةِ أَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا مِنْهُ لِلَّهِ وَطَلَبًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ (أَقُولُ) : كَلَّا إِنَّمَا هِيَ فَلْسَفَةٌ خَيَالِيَّةٌ مِنْ خَيَالَاتِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الْبُرْهُمِيَّةِ الْهِنْدِيَّةِ قَدْ شُغِلَ بِهَا أَفْرَادٌ عَنْ فِطْرَةِ اللهِ وَشَرْعِهِ مَعًا فَجَعَلُوهَا أَعْلَى مَرَاتِبَ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَأَوَّلُوا لَهَا بَعْضَ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (١٨: ٢٨) وَمَا إِرَادَةُ وَجْهِهِ تَعَالَى إِلَّا الْإِخْلَاصُ لَهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَتَحَرِّي هِدَايَةِ دِينِهِ فِيهِ، لَا مَا تَخَيَّلُوهُ مِنْ أَنَّ إِرَادَةَ وَجْهِهِ تَعَالَى هُوَ الْوُصُولُ إِلَى ذَاتِهِ بَعْدَ التَّجَرُّدِ مِنْ كُلِّ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ جَمِيعًا، فَإِنَّ الِاتِّصَالَ بِتِلْكَ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي لَا تُدْرِكُهَا الْعُقُولُ وَلَا تَدْنُو مِنْ كُنْهِهَا الْأَفْكَارُ وَلَا الْأَوْهَامُ، مِمَّا لَمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ، بَلْ إِدْرَاكُ كُنْهِ الذَّوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ لَهُ تَعَالَى فَوْقَ اسْتِطَاعَةِ خَلْقِهِ. وَإِنَّمَا أَعْلَى مَرَاتِبَ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا هِيَ مَعْرِفَةُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَبِكُلِّ شَيْءٍ، وَدُعَاؤُهُ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ بِمَا يُنَاسِبُ تَعَلُّقَهُ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، وَبِهَذَا فَضَّلَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ خِيَارَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَعْبُدُ كُلٌّ مِنْهُمْ رَبَّهُ عِبَادَةً خَاصَّةً، وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ مَنْ يَعْرِفُ حَقَّ رَبِّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا شَرَعَهُ مِنْ حُقُوقِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْقِيَامُ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُبِّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَأَعْلَى

مَرَاتِبِ مَعْرِفَتِهِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مَقَامُ الرُّؤْيَةِ بِتَجَلِّيهِ الْأَعْلَى فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَنِ الْعَمَلِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَيَانًا لِمَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَظِّ هَؤُلَاءِ: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) الْإِشَارَةُ بِـ (أُولَئِكَ) إِلَى الَّذِينَ يَطْلُبُونَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ، وَالْحَسَنَةَ فِي الْمَنْزِلَتَيْنِ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرِيقِ الَّذِي يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَحْدَهَا قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) (٢: ٢٠٠) فَإِنَّ الْعَطْفَ يُشْعِرُ بِمَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْفَرِيقُ لَهُ حَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ حَظٍّ سِوَاهُ، وَمَجْمُوعُ الْكَلَامِ فِي الْفَرِيقَيْنِ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (٤٢: ٢٠) وَقَدْ بَيَّنَتِ الْآيَةُ صَرِيحًا أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مَا دَعَوُا اللهَ تَعَالَى فِيهِ بِكَسْبِهِمْ، وَهَذَا نَصٌّ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ اللِّسَانِ مُطَابِقًا لِمَا فِي النَّفْسِ مِنَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بَعْدَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَالسَّعْيِ فِي الطُّرُقِ الَّتِي مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى ; وَلِهَذَا قَالَ: (مِمَّا كَسَبُوا) وَلَمْ يَقُلْ: لَهُمْ مَا طَلَبُوا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِأَسْبَابِهَا وَيَسْعَوْنَ لِلْآخِرَةِ سَعْيَهَا، كَانَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ كَسْبِهِمْ هَذَا فِي الدَّارَيْنِ عَلَى قَدْرِهِ (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يُوَفِّي كُلَّ كَاسِبٍ أَجْرَهُ عَقِبَ عَمَلِهِ بِحَسَبِهِ ; لِأَنَّ سُنَّتَهُ مَضَتْ بِأَنْ تَكُونَ الرَّغَائِبُ آثَارَ الْأَعْمَالِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>