للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَمَّا كَانَ الْإِفْسَادُ يَصْدُرُ تَارَةً عَنِ الْجَهْلِ وَسُوءِ الْفَهْمِ، وَأَحْيَانًا عَنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ وَسُوءِ الْقَصْدِ، وَكَانَ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ سَرِيعَ التَّوْبَةِ، مُبَادِرًا إِلَى قَبُولِ النَّصِيحَةِ، وَكَانَ شَأْنُ الْآخَرِ الْإِصْرَارَ عَلَى ذَنْبِهِ، كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ، ذَكَرَ مِنْ صِفَةِ الْمُفْسِدِ مَا يُمَيِّزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُخْطِئِ، فَقَالَ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أَيْ: أَنَّهُ إِذَا أُمِرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نُهِيَ عَنْ مُنْكَرٍ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْغَضَبُ، وَيَعْظُمُ

عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَتَأْخُذُهُ الْكِبْرِيَاءُ وَالْأَنَفَةُ، وَتَخْطَفُهُ الْحَمِيَّةُ وَطَيْشُ السَّفَهِ، فَيَكُونُ كَالْمَأْخُوذِ بِالسِّحْرِ، لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ فِكْرٌ ; لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى إِفْسَادِهِ لَا يَبْغِي عَنْهُ حِوَلًا. وَعَبَّرَ عَنِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْحَمِيَّةِ بِالْعِزَّةِ ; لِلْإِشْعَارِ بِوَجْهِ الشُّبْهَةِ لِلنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَهُوَ تَخَيُّلُهَا النُّصْحَ وَالْإِرْشَادَ ذِلَّةً تُنَافِي الْعِزَّةَ الْمَطْلُوبَةَ.

قَالَ شَيْخُنَا: هَذَا الْوَصْفُ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي تَفْسِيرِ التَّوَلِّي بِالْوِلَايَةِ وَالسُّلْطَةِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ الظَّالِمَ الْمُسْتَبِدَّ يَكْبُرُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْشَدَ إِلَى مَصْلَحَةٍ، أَوْ يُحَذَّرَ مِنْ مَفْسَدَةٍ ; لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ الَّذِي رَكِبَهُ وَعَلَاهُ يَجْعَلُهُ أَعْلَى النَّاسِ رَأْيًا وَأَرْجَحَهُمْ عَقْلًا، بَلِ الْحَاكِمُ الْمُسْتَبِدُّ الَّذِي لَا يَخَافُ اللهَ تَعَالَى يَرَى نَفْسَهُ فَوْقَ الْحَقِّ كَمَا أَنَّهُ فَوْقَ أَهْلِهِ فِي السُّلْطَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفَنُ رَأْيِهِ خَيْرًا مِنْ جَوْدَةِ آرَائِهِمْ، وَإِفْسَادُهُ نَافِذًا مَقْبُولًا دُونَ إِصْلَاحِهِمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ فِي كَذَا؟ وَإِنَّ الْأَمِيرَ مِنْهُمْ لَيَأْتِي أَمْرًا فَيَظْهَرُ لَهُ ضَرَرُهُ فِي شَخْصِهِ أَوْ فِي مُلْكِهِ وَيَوَدُّ لَوْ يَهْتَدِي السَّبِيلَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، فَيَعْرِضُ لَهُ نَاصِحٌ يَشْرَعُ لَهُ السَّبِيلَ فَيَأْبَى سُلُوكَهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهَا النَّجَاةَ وَالْفَوْزَ إِلَّا أَنْ يَحْتَالَ النَّاصِحُ فِي إِشْرَاعِهَا فَيَجْعَلُهُ بِصِيغَةٍ لَا تُشْعِرُ بِالْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، وَلَا بِأَنَّ السَّيِّدَ الْمُطَاعَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ.

وَقَدْ عَرَضْتُ نَصِيحَةً عَلَى بَعْضِهِمْ مَعَ ذِكْرِ لَفْظِ النَّصِيحَةِ بَعْدَ تَمْهِيدٍ لَهُ بِالْحَدِيثِ ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)) وَبَيَانِ مَعْنَاهُ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ: إِنَّنِي أَنْصَحُ لَكَ وَلِأَنَّكَ إِمَامِي، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرُ عَهْدِ النَّاصِحِ بِهِ، فَانْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَرْضَ حَاكِمٌ مُسْلِمٌ بِأَنْ يُبْذَلَ لَهُ مَا يَجِبُ أَنْ يُبْذَلَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْأَئِمَّةِ، وَقَدْ كَانَ الْعُلَمَاءُ يَنْصَحُونَ لِلْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَأْخُذُونَ بِالنُّصْحِ بِحَسَبِ مَكَانِهِمْ مِنَ الدِّينِ، وَأَمَّا الطُّغَاةُ الْبُغَاةُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا مَا يَخْدَعُونَ بِهِ الْعَامَّةَ

مِنْ إِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ الْمُبْتَدَعَةِ، فَإِنَّهُمْ يُؤْذُونَ مَنْ يُشِيرُ إِشَارَةً مَا إِلَى أَنَّهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى تَقْوَى اللهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ فِي عِيَالِ اللهِ الَّذِينَ سُلِّطُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنَ السُّلْطَانِ وَالْحُكْمِ مَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ كُلِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>