للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الزَّرْعَ وَعَقَرَ الْحُمُرَ. فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَتَانِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُمَا سَبَبًا حَمَلَ الْآيَاتِ عَلَيْهِمَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْآيَاتِ لَيْسَتْ مُطَابَقَةً لِلْحَادِثَتَيْنِ اللَّتَيْنِ إِنْ صَحَّتَا كَانَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ; فَإِنَّ الْأَخْنَسَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْفَرِيقَ الْآخَرَ الْمُقَابِلَ لِمَنْ تَأْخُذُهُ الْعِزَّةُ إِذَا ذُكِّرَ بِاللهِ تَعَالَى فَقَالَ:

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ) وَكَانَ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ أَنْ يُوصَفَ هَذَا الْفَرِيقُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ عَدَمِ الدَّعْوَى وَالتَّبَجُّحِ بِالْقَوْلِ، أَوْ مَعَ مُطَابَقَةِ قَوْلِهِ لِعَمَلِهِ، وَمُوَافَقَةِ لِسَانِهِ لِمَا فِي قَلْبِهِ، وَالْآيَةُ تَضَمَّنَتْ هَذَا الْوَصْفَ وَإِنْ لَمْ تَنْطِقْ بِهِ. فَإِنَّ مَنْ يَشْرِي ; أَيْ: يَبِيعُ نَفْسَهُ لِلَّهِ، لَا يَبْغِي ثَمَنًا لَهَا غَيْرَ مَرْضَاتِهِ، لَا يَتَحَرَّى إِلَّا الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَقَوْلَ الْحَقِّ، مَعَ الْإِخْلَاصِ فِي الْقَلْبِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ بِلِسَانَيْنِ، وَلَا يُقَابِلُ النَّاسَ بِوَجْهَيْنِ، وَلَا يُؤْثِرُ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ كُبَرَائِهَا وَمُتْرَفِيهَا مِنَ الْقُصُورِ، وَمَتَاعِ الزِّينَةِ وَالْغُرُورِ، وَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَعْتَدُّ الْقُرْآنُ بِإِيمَانِهِ. وَأَمَّا الْإِيمَانُ الْقَوْلِيُّ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَلَا يَمَسُّ سَوَادَ الْقُلُوبِ، وَلَا تَظْهَرُ آثَارُهُ فِي الْأَعْمَالِ، وَلَا يَحْمِلُ صَاحِبُهُ شَيْئًا مِنَ الْحُقُوقِ لِدِينِهِ وَمِلَّتِهِ وَلَا لِقَوْمِهِ وَأُمَّتِهِ، فَلَا قِيمَةَ لَهُ فِي كِتَابٍ، وَلَا يُقَامُ لِصَاحِبِهِ وَزْنٌ فِي يَوْمِ اللهِ، بَلْ يُخْشَى أَنْ يُقَالَ لِذَوِيهِ: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٤٦: ٢٠) .

ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الشِّرَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى تَشْرَحُ هَذِهِ الْآيَةَ وَتُفَسِّرُهَا، وَتُبَيِّنُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَاعُوا وَأَنَّ اللهَ قَدِ اشْتَرَى، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ - إِلَى قَوْلِهِ - فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩: ١١١) وَقَدْ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَهُ مَعَهَا مِيزَانًا لِلْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ، فَنَفْسُ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ لَا لِلشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالْمَكْرِ الشَّيْطَانِيِّ، فَمَنْ آثَرَ شَهْوَتَهُ عَلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِ، وَالْتِزَامِ حُدُودِهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى هَدْيِ دِينِهِ، فَلَا وَزْنَ لَهُ فِي سُوقِ هَذَا الْبَيْعِ وَلَا قِيمَةَ. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيَكْبُرُ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى الْمَفْتُونِينَ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَذَّاتِهَا وَقُصُورِهَا، وَخُمُورِهَا وَحُورِهَا، وَإِنْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ زُعَمَاءِ الدِّينِ، وَخِدْمَتِهِ الْمُخْلِصِينَ; لِأَنَّ الْحَقَّ مُرٌّ فِي مَذَاقِ الْمُبْطِلِينَ.

وَالْآيَةُ لَا تُنَافِي مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الدُّعَاءِ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرَعَ لَنَا طَلَبَ الدُّنْيَا مِنَ الْوُجُوهِ الْحَسَنَةِ كَمَا شَرَعَ لَنَا طَلَبَ الْآخِرَةِ، بَلْ هِيَ مُؤَيِّدَةٌ لَهَا، فَإِنَّ طَلَبَهَا مِنَ الطُّرُقِ الْحَسَنَةِ; أَيِ: الْمَشْرُوعَةِ النَّافِعَةِ، لَا يُنَافِي مَرْضَاةَ اللهِ تَعَالَى بِبَيْعِ النَّفْسِ لَهُ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ بِفَاعِلِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَنَا أَنْ نَتَمَتَّعَ بِهَا حَلَالًا، وَنَكُونَ مُثَابِينَ مَرْضِيِّينِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لَمَّا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ)) ؟ قَالُوا:

<<  <  ج: ص:  >  >>