للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى مَا هُوَ دَلِيلُ الْعِقَابِ وَهُوَ مَا لَا مَطْمَعَ فِي زَوَالِهِ، وَلَا هُزْءَ فِي الدِّينِ أَكْبَرُ مِنْ ظَنِّ الْمَغْرُورِ أَنَّهُ يَنَالُ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَفِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالرِّضْوَانِ مَا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ بِغَيْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهَا آيَاتُ اللهِ تَعَالَى، مُبَيِّنَةً أَنَّ الْعُقُوبَاتِ عَلَى تَرْكِهَا مِنْ آثَارِ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي لَا يَلْحَقُهَا تَغْيِيرٌ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْحَوَادِثُ بِتَبْدِيلٍ وَلَا تَحْوِيلٍ اهـ.

وَنَقُولُ نَحْنُ عَلَى طَرِيقَتِهِ: إِنَّ ظَنَّ الْمَغْرُورِينَ بِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُمُ السُّلُطَاتُ وَالْخِلَافَةُ فِي الْأَرْضِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ - وَلَوْ مَعَ بَعْضِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي النَّاسِ وَالْعِمَارَةِ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ - هُوَ مِنَ الْهُزْءِ بِآيَاتِ اللهِ فِي كِتَابِهِ، وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادُ اللهِ الصَّالِحُونَ لِعِمَارَتِهَا وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِيهَا (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى) أَيِ: الْأُمَمَ (بِظُلْمٍ) مِنْهُمْ أَيْ: شِرْكٍ وَكُفْرٍ، أَوْ مِنْهُ لَهُمْ (وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (١١: ١١٧) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهَا إِذَا ظَلَمُوا وَأَفْسَدُوا فِيهَا.

وَالْآيَتَانِ الْمُفَسَّرَتَانِ آنِفًا وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (٣: ١٠٣ - ١٠٥) وَقَوْلُهُ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (٦: ١٥٩) كُلُّهَا هَادِمَةٌ لِلتَّقَالِيدِ الَّتِي فَرَّقَتِ الْأُمَّةَ وَجَعَلَتْهَا شِيَعًا، حَتَّى صَارَ بَأْسُهَا بَيْنَهَا شَدِيدًا فَسَفَكَتْ دِمَاءَهَا بِأَيْدِيهَا، وَمَزَّقَتْ دُنْيَاهَا بِتَمْزِيقِ دِينِهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا نَرَى سُوءَ عَاقِبَتِهِ فِي كُلِّ شَعْبٍ وَكُلِّ قُطْرٍ.

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى غَايَةَ الْوَعِيدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ فَقَالَ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ) وَقَدْ غَيَّرَ الْأُسْلُوبَ بِالِالْتِفَاتِ عَنِ الْخِطَابِ وَالْأَمْرِ إِلَى الْحِكَايَةِ عَنِ الزَّالِّينَ عَنْ صِرَاطِ اللهِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَالْحِكْمَةُ فِي الِالْتِفَاتِ تَنَاوُلُ هَذَا الْوَعِيدِ لِجَمِيعِ مَنْ زَلَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ فِي الدُّخُولِ فِي السِّلْمِ وَالْمَنْهِيِّينَ عَنْ ضِدِّهِ وَمَنْ زَلَّ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ هِيَ الْإِيذَانُ بِأَنَّ الزَّالِّينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَرَفَ الْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ.

الِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَيَنْظُرُونَ بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الِاسْتِعْمَالِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَا سِيَّمَا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) (٤٧: ١٨) وَ (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) (٣٦: ٤٩) وَإِتْيَانُ اللهِ تَعَالَى فَسَّرَهُ (الْجَلَالُ) وَآخَرُونَ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ; أَيْ: عَذَابِهِ، كَقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) (١٦: ٣٣) أَيْ: فَهُوَ بِمَعْنَى مَا جَاءَ مِنَ التَّخْوِيفِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُوَافِقَةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي أُسْلُوبِهَا. وَأَقَرَّ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ (الْجَلَالَ) عَلَى ذَلِكَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>