للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ إِلَى أَنَّ (أَنَّى) فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْمَكَانِ لَا بِمَعْنَى الْكَيْفِيَّةِ وَالصِّفَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي إِبَاحَةِ الْإِتْيَانِ فِي غَيْرِ الْمُزْدَرِعِ وَالْحَرْثِ فَمَعْنَاهَا فِي أَيِّ النَّافِذَتَيْنِ شِئْتُمْ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ جُنُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالرِّوَايَةِ، هُوَ الَّذِي حَمَلَ بَعْضَهُمْ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَتَبَرَّأُ مِنْهُ عِبَارَتُهَا الْعَالِيَةُ، وَنَزَاهَتُهَا السَّامِيَةُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى ذَوْقِ التَّعْبِيرِ وَمُرَاعَاةِ الْأَدَبِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كَمَا رَأَوْا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَدْ فَاتَهُمْ فَهْمُ حُكْمِهَا، كَمَا فَاتَهُمْ حِكْمَتُهَا وَنَزَاهَتُهَا وَأَدَبُهَا، وَأَقُولُ: إِنَّ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ (أَنَّى شِئْتُمْ) هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ لَا يَشْتَبِهُ فِيهِ مَنْ لَهُ ذَوْقُ الْعَرَبِيَّةِ، وَالرِّوَايَاتُ مُتَعَارِضَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَأَهْلِ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا حَظْرُ الْيَهُودِ إِتْيَانَ الْحَرْثِ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْوَلَدَ يَجِيءُ أَحْوَلَ إِذَا كَانَ الْعَلُوقُ بِالْوِقَاعِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَتُكَذِّبُهُمُ التَّجَارُبُ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي إِبَاحَةِ الْخُرُوجِ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ

، وَلَئِنْ صَحَّ سَنَدًا فَهُوَ لَنْ يَصِحَّ مَتْنًا، وَلَا نَخْرُجُ عَنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ وَمَحَجَّتِهِ الْبَيْضَاءِ لِرِوَايَةِ أَفْرَادٍ قِيلَ إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْهُمْ مَا يَجْرَحُ رِوَايَتَهُمْ.

وَيُؤَيِّدُ التَّفْسِيرَ الْمُخْتَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) إِلَخْ.

فَهَذِهِ أَوَامِرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَا شَيْئًا يُرَغَّبُ فِيهِ وَشَيْئًا يُرَغَّبُ عَنْهُ وَيُحَذَّرُ مِنْهُ، أَمَّا مَا يُرَغَّبُ فِيهِ فَهُوَ مَا يُقَدَّمُ لِلنَّفْسِ وَهُوَ مَا يَنْفَعُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا أَنْفَعَ لِلْإِنْسَانِ فِي مُسْتَقْبَلِهِ مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ، فَهُوَ يَنْفَعُهُ فِي دُنْيَاهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي دِينِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْوَالِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَصَلَاحِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الْوَلَدَ الصَّالِحَ مِنْ عَمَلِ الْمَرْءِ الَّذِي يَنْفَعُهُ دُعَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ صَالِحًا إِلَّا إِذَا أَحْسَنَ وَالِدَاهُ تَرْبِيَتَهُ، فَالْأَمْرُ بِالتَّقْدِيمِ لِلنَّفْسِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِاخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ الْوَدُودِ الْوَلُودِ الَّتِي تُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ بِحُسْنِ خُلُقِهَا وَعَمَلِهَا، كَمَا يَخْتَارُ الزِّرَاعَةَ فِي الْأَرْضِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُرْجَى نَمَاءُ النَّبَاتِ فِيهَا وَإِيتَاؤُهُ الْغَلَّةَ الْجَيِّدَةَ، وَيَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِحُسْنِ تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَتَهْذِيبِهِ، وَأَمَّا مَا يُحَذَّرُ مِنْهُ وَيُتَّقَى اللهُ فِيهِ فَهُوَ إِخْرَاجُ النِّسَاءِ عَنْ كَوْنِهِنَّ حَرْثًا بِإِضَاعَةِ مَادَّةِ النَّسْلِ فِي الْمَحِيضِ أَوْ بِوَضْعِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَرْثِ، وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ الْفَاسِدَةِ التَّرْبِيَةِ، وَإِهْمَالُ تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ; فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَرَدَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ وَالْأَمْرُ بِإِتْيَانِهِنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَرْثِ وَالْأَمْرِ بِالتَّقْدِيمِ لِأَنْفُسِنَا، فَوَجَبَ تَفْسِيرُ التَّقْوَى بِتَجَنُّبِ مُخَالَفَةِ هَذَا الْهَدْيِ الْإِلَهِيِّ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ) إِنْذَارٌ لِلَّذِينِ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ بِأَنَّهُمْ يُلَاقُونَ جَزَاءَ مُخَالَفَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا يُلَاقُونَهَا فِي الدُّنْيَا بِفَقْدِ مَنَافِعِ الطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ، وَتَجَرُّعِ مَرَارَةِ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، ثُمَّ قَرَنَ إِنْذَارَ الْعَاصِينَ بِتَبْشِيرِ الْمُطِيعِينَ فَقَالَ: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

<<  <  ج: ص:  >  >>