للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُسِرُّهُ الْعَبْدُ أَوْ يُعْلِنُهُ، فَلَا يُرْضِيهِ إِلَّا الْتِزَامُ حُدُودِهِ وَالْعَمَلُ بِأَحْكَامِهِ، مَعَ الْإِخْلَاصِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ، حَتَّى يَكُونَ ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ فِي الْخَيْرِ، وَلَا يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَمَلِهِ، وَالْعِلْمِ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ فِيهِ، لَا يُبَيِّتُ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَلَا يَنْوِي خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَلَا يَطُوفُ فِي ذِهْنِهِ خَاطِرٌ، وَلَا تَخْتَلِجُ فِي قَلْبِهِ خَلْجَةٌ إِلَّا وَهُوَ سُبْحَانُهُ عَالَمٌ بِذَلِكَ وَمُطَّلِعٌ عَلَيْهِ،

فَلَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِ إِلَّا بِتَطْهِيرِ قَلْبِهِ، وَإِخْلَاصِ نِيَّتِهِ فِي مُعَامَلَةِ زَوْجِهِ وَفِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ حَسُنَ عَمَلُهُ غَالِبًا بَلْ كَانَ مُوَفَّقًا دَائِمًا.

أَقُولُ: وَمِنَ التَّوْفِيقِ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْ خَطَئِهِ الَّذِي لَمْ يُرِدْ بِهِ سُوءًا، فَيَعْرِفَ كَيْفَ يَتَوَقَّى مِثْلَ هَذَا الْخَطَأِ، وَيَزْدَادَ بَصِيرَةً فِي الْخَيْرِ، فَلْيَزْنِ الْمُؤْمِنُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمِيزَانِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْثَالِهَا وَهِيَ الْمَوَازِينُ الْقِسْطُ; لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَنْشَأَ فَسَادِ الْبُيُوتِ وَشَقَاءِ الْمَعِيشَةِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ هَدْيِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى السَّعَادَةِ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَفَّقَنَا اللهُ لِذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) الْأَجَلُ: آخِرُ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ لَا قُرْبُهَا كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى افْتِرَاقِ الْبُلُوغَيْنِ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ وَالتَّسْرِيحَ بِمَعْرُوفٍ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لَا يَتَأَتَّى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ انْقِضَاءَهَا إِمْضَاءٌ لِلتَّسْرِيحِ، لَا مَحَلَّ مَعَهُ لِلتَّخْيِيرِ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ يَسْتَمِرُّ إِلَى قُرْبِ انْقِضَائِهَا، وَالنَّهْيُ عَنِ الْعَضْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِبُلُوغِ الْأَجَلِ انْقِضَاؤُهَا إِذْ لَا مَحَلَّ لِلْعَضَلِ قَبْلَهُ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) حُكْمٌ جَدِيدٌ غَيْرُ الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ هُوَ تَحْرِيمُ الْعَضَلِ; أَيْ: مَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنَ الزَّوَاجِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَتَحَكَّمَ الرِّجَالُ فِي تَزْوِيجِ النِّسَاءِ إِذْ لَمْ يَكُنْ يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ إِلَّا وَلِيُّهَا، فَقَدْ يُزَوِّجُهَا بِمَنْ تَكْرَهُ وَيَمْنَعُهَا مِمَّنْ تُحِبُّ لِمَحْضِ الْهَوَى، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الرِّجَالَ الْمُطَلِّقِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>