للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ إِلَى أَحْكَامِ الرَّضَاعَةِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) الْهَادِيَةِ إِلَى كَيْفِيَّةِ التَّعَامُلِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ، فَمِنْ ثَمَّ عَطَفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: (وَالْوَالِدَاتُ) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

(الْقَوْلُ الْأَوَّلُ) أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُطَلَّقَاتِ لِوُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ فِي أَحْكَامِهِنَّ وَهَذَا مِنْ تَتِمَّتِهِ. (ثَانِيهَا) إِيجَابُ رِزْقِهِنَّ وَكِسَوْتِهِنَّ عَلَى الْوَالِدِ، وَلَوْ كُنَّ أَزْوَاجًا لَمَا كَانَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا الْإِيجَابِ; لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ الَّتِي فِي الْعِصْمَةِ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجِيَّةِ لَا لِلرَّضَاعِ. (ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ عُرْضَةٌ لِإِهْمَالِ الْعِنَايَةِ بِالْوَلَدِ وَتَرْكِ إِرْضَاعِهِ; لِأَنَّهُ يَحُولُ دُونَ زَوَاجِهَا فِي الْغَالِبِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ النِّكَايَةِ بِالرَّجُلِ وَلَا سِيَّمَا الَّذِي لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ اسْتِئْجَارُ ظِئْرٍ تَقُومُ مَقَامَ الْوَالِدَةِ، وَهُنَا وَجْهٌ (رَابِعٌ) لِتَرْجِيحِ هَذَا الْقَوْلِ ظَهَرَ لِيَ الْآنَ؛ وَهُوَ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُضَارَّةِ بِالْوَلَدِ، وَإِنَّمَا تُضَارُّ بِذَلِكَ الْمُطَلَّقَةُ دُونَ الَّتِي فِي الْعِصْمَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ لِلْمُطَلَّقَةِ الْحَقَّ فِي إِرْضَاعِ وَلَدِهَا كَسَائِرِ الْوَالِدَاتِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُطَلِّقِ مَنْعُهَا مِنْهُ وَهُوَ عُرْضَةٌ لِهَذَا الْمَنْعِ.

(الْقَوْلُ الثَّانِي) أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْوَالِدَاتِ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي هَذَا

الْقَوْلِ: هُوَ الْأَوْلَى; لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَسْتَحِقُّ الْكِسْوَةَ وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا التَّرْجِيحَ مَرْجُوحٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ.

(الْقَوْلُ الثَّالِثُ) أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَقَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ أَوْلَى عَمَلًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ; فَهُوَ عَامٌّ لَا دَلِيلَ عَلَى تَخْصِيصِهِ، وَيَكُونُ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ - أَيِ النَّفَقَةُ - خَاصًّا بِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِ وَهُنَّ الْوَالِدَاتُ الْمُطَلَّقَاتُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اسْتِئْجَارَ الْأُمِّ لِلْإِرْضَاعِ صَحِيحٌ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأُجْرَةِ بِالرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ وَالْكِسْوَةَ لِأَجْلِ الرَّضَاعِ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ مِنَ الْآيَةِ، وَنَحْنُ لَا نَسْتَفِيدُ مِنْ جَعْلِ الْآيَةِ عَامَّةً زِيَادَةً عَمَّا نَسْتَفِيدُ بِجَعْلِهَا خَاصَّةً، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ إِرْضَاعِ الْوَلَدِ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بِالنَّصِّ، وَأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا أَيْضًا، وَهَذَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ إِذَا حُمِلَتْ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ لَمْ يَقُولُوا بِهَذَا الْوُجُوبِ مُطْلَقًا كَمَا يَأْتِي، وَلَا أَذْكُرُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ تَرْجِيحًا أَوِ اخْتِيَارًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) أَمْرٌ جَاءَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَقْرِيرِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>