للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يُعَرِّضَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ فِي الْعِدَّةِ بِأَمْرِ الزَّوَاجِ تَعْرِيضًا، وَقَرَنَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ مِنَ النِّيَّةِ فِي الْقَلْبِ وَالْعَزْمِ الْمَسْتَكِنِّ فِي الضَّمِيرِ، كَأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي تَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ أَوْ تَعَسُّرِهِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْطَعُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ دِينِيٌّ، بَلْ رَاعَى فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ وَجْهَ الرُّخْصَةِ فَقَالَ: (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) فِي أَنْفُسِكُمْ، وَخَطِرَاتُ قُلُوبِكُمْ لَيْسَتْ فِي أَيْدِيكُمْ، وَيَشُقُّ عَلَيْكُمْ أَنْ تَكْتُمُوا رَغْبَتَكُمْ وَتَصْبِرُوا عَنِ النُّطْقِ لَهُنَّ بِمَا فِي أَنْفُسِكُمْ، فَرَخَّصَ لَكُمْ فِي التَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ، فَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ الرُّخْصَةِ (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) أَيْ فِي السِّرِّ; فَإِنَّ الْمُوَاعَدَةَ السِّرِّيَّةَ مَدْرَجَةُ الْفِتْنَةِ وَمَظِنَّةُ الظِّنَّةِ. وَالتَّعْرِيضُ يَكُونُ فِي الْمَلَأِ لَا عَارَ فِيهِ وَلَا قُبْحَ، وَلَا تَوَسُّلَ إِلَى مَا لَا يُحْمَدُ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ السِّرَّ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ النِّكَاحِ; أَيْ: لَا تَعْقِدُوا مَعَهُنَّ وَعْدًا صَرِيحًا عَلَى التَّزَوُّجِ بِهِنَّ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَبَّرَ عَنِ النِّكَاحِ بِالسِّرِّ; لِأَنَّهُ يَكُونُ سِرًّا فِي الْغَالِبِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُوَاعَدَةُ سِرًّا أَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنِّي عَاشِقٌ وَعَاهِدِينِي أَلَّا تَتَزَوَّجِي غَيْرِي وَنَحْوَ هَذَا، وَقِيلَ: هِيَ الْمُوَاعَدَةُ عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ الصَّرِيحِ

مَعَهَا فِي الْخَلْوَةِ قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا) قِيلَ: هُوَ التَّعْرِيضُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هُوَ مَا يُعْهَدُ مِثْلُهُ بَيْنَ النَّاسِ الْمُهَذَّبِينَ بِلَا نَكِيرٍ كَالتَّعْرِيضِ، وَهَذَا أَقْوَى مِنَ التَّعْرِيضِ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ أَنْ يَتَحَدَّثُوا مَعَ النِّسَاءِ الْمُعْتَدَّاتِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فِي أَمْرِ الزَّوَاجِ بِالسِّرِّ وَيَتَوَاعَدُوا مَعَهُنَّ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا رَخَّصَ لَهُمْ فِيهِ هُوَ التَّعْرِيضُ الَّذِي لَا يُنْكِرُ النَّاسُ مِثْلَهُ فِي حَضْرَتِهِنَّ، وَلَا يَعُدُّونَهُ خُرُوجًا عَنِ الْأَدَبِ مَعَهُنَّ، وَالْفَائِدَةُ مِنْهُ التَّمْهِيدُ وَتَنْبِيهُ الذِّهْنِ، حَتَّى إِذَا تَمَّتِ الْعِدَّةُ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَالِمَةً بِالرَّاغِبِ أَوِ الرَّاغِبِينَ، فَإِذَا سَبَقَ إِلَى خِطْبَتِهَا الْمَفْضُولُ رَدَّتْهُ إِلَى أَنْ يَجِيءَ الْأَفْضَلُ عِنْدَهَا، وَقَدْ أَوْضَحَ الْأَمْرَ وَسَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ; لِأَنَّ النَّاسَ يَتَسَاهَلُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ لِمَا لَهُمْ مِنْ دَافِعِ الْهَوَى إِلَيْهَا; وَلِذَلِكَ صَرَّحَ بِمَا فَهِمَ مِنْ سَابِقِ الْقَوْلِ مِنْ جَوَازِ الْقَصْدِ إِلَى الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِ الْعِدَّةِ فَقَالَ:

(وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ) أَيْ: عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ عَلَى حَذْفِ ((عَلَى)) وَيُقَالُ: عَزَمَ الشَّيْءَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَاعْتَزَمَهُ; أَيْ: عَقَدَ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِهِ، أَوِ الْمَعْنَى لَا تَعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ وَهُوَ الْعَزْمُ الْمُتَّصِلُ بِالْعَمَلِ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) أَيْ: حَتَّى يَنْتَهِيَ مَا كُتِبَ وَفُرِضَ مِنَ الْعِدَّةِ، فَالْكِتَابُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ; أَيِ: الْمَفْرُوضِ أَوْ بِمَعْنَى الْفَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) (٢: ١٨٣) وَقَالَ: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) (٤: ١٠٣) وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْفَرْضِيَّةِ الْمُحَتَّمَةِ بِلَفْظِ الْكِتَابِ; لِأَنَّ مَا يُكْتَبُ يَكُونُ أَثْبَتَ وَآكَدَ وَأَحْفَظَ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْكِتَابَ بِالْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعِدَّةُ أَيْضًا كَأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يَتِمَّ مَا نَطَقَ بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>