للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (٩: ٩١) وَالنُّصْحُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبٌ حَتْمٌ، وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٩: ١٢٠) وَذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ كَثِيرًا بَعْدَ ذِكْرِ الصَّبْرِ فِي مَوَاضِعِ الْيَأْسِ وَهُوَ وَاجِبٌ. وَبَعْدَ ذِكْرِ مُحَاوَلَةِ إِبْرَاهِيمَ ذَبْحَ وَلَدِهِ - وَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ - لَوْلَا مَا افْتَدَاهُ اللهُ تَعَالَى. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ عِنْدَ ذِكْرِ الْجَزَاءِ: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣٩: ٥٨) وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنِ النَّفْسَ تُعَذَّبُ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ فَتَتَمَنَّى الرَّجْعَةَ لِتُؤَدِّيَهَا؟ وَمَنْ تَتَبَّعَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا الْإِحْسَانَ يَرَى أَنَّ مِنْهَا مَا يُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ الْمَفْرُوضَةُ

أَوَّلًا بِالذَّاتِ، وَمِنْهَا مَا يُرَادُ بِهِ مَا زَادَ عَنِ الْفَرْضِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمِنْهَا مَا يُرَادُ بِهِ إِحْسَانُ الْعَمَلِ وَإِتْقَانُهُ مُطْلَقًا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِوُجُوبِ الْمُتْعَةِ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو قِلَابَةَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مِقْدَارِهَا وَقَدْ عَلِمْتَ الْمُخْتَارَ فِيهِ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ تُشْرَعُ لِغَيْرِ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ أَمْ لَا وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) (٢: ٢٤١) .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الْآيَةُ الْمَاضِيَةُ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ إِذَا لَمْ يَفْرِضْ لَهَا، وَهَذِهِ فِي حُكْمِهَا وَقَدْ فَرَضَ لَهَا الْمَهْرَ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرَ الْمَفْرُوضَ.

قَالَ (الْجَلَالُ) : فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ يَجِبُ لَهُنَّ وَيَرْجِعُ لَكُمُ النِّصْفُ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا جَرَى عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ هُوَ سَوْقُ الْمَهْرِ كُلِّهِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، خِلَافًا لِمَا اسْتَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدُ مِنْ تَأْخِيرِ ثُلُثِ الْمَهْرِ أَيْ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يُؤَخِّرُونَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ أَقَلَّ حَتَّى كَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الدِّينِ، وَمَا هُوَ إِلَّا عَادَةٌ مِنَ الْعَادَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَهَا حُبُّ الظُّهُورِ بِكَثْرَةِ الْمَهْرِ وَالْفَخْرِ بِهِ، مَعَ اجْتِنَابِ الْإِرْهَاقِ بِدَفْعِهِ كُلِّهِ. وَقَدَّرَ غَيْرُ الْجَلَالِ: فَالْوَاجِبُ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ - أَوْ - فَادْفَعُوا نِصْفَ مَا فَرَضْتُمْ، وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أَيِ: النِّسَاءُ الْمُطَلَّقَاتُ عَنْ أَخْذِ النِّصْفِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَهُوَ حَقُّ الْبَالِغَةِ الرَّشِيدَةِ (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) قِيلَ: هُوَ الْوَلِيُّ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَوِ الْوَلِيُّ الْمُجْبَرُ وَهُوَ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ فَيَعْفُو لَهُ عَنِ النِّصْفِ الْوَاجِبِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَالشِّيعَةُ لَا تُبِيحُ لَهُ الْعَفْوَ عَنْ كُلِّهِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ الَّذِي بِيَدِهِ حَلُّهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي رَبَطَ الْمَرْأَةَ وَأَمْسَكَ الْعُقْدَةَ بِيَدِهِ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُحِلَّهَا وَيَدَعَهَا بِدُونِ شَيْءٍ، بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْعَفْوُ وَالسَّمَاحُ بِكُلِّ مَا كَانَ قَدْ أَعْطَى وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ الْمُحَتَّمُ نِصْفَهُ، فَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ:

(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)

<<  <  ج: ص:  >  >>