للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تِلْكَ الرُّسُلُ أَيِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فِي آخِرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُمْ دَاوُدُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْمُرَادُ بِالرُّسُلِ مَنْ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ مَنْ قَصَّ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنْبَائِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ جَمَاعَةُ الرُّسُلِ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي اخْتِيَارِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُمْ لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ وَهِدَايَةِ خَلْقِهِ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالتَّصْرِيحُ بِهَذَا التَّفْضِيلِ وَذِكْرُ بَعْضِ الْمُفَضَّلِينَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْرَاكًا مَعَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ إِيتَائِهِ - تَعَالَى - دَاوُدَ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَتَعْلِيمِهِ مِمَّا يَشَاءُ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كُلُّهُمْ رُسُلُ اللهِ، فَهُمْ حَقِيقُونَ بِأَنْ يُتَّبَعُوا وَيُقْتَدَى بِهُدَاهُمْ وَإِنِ امْتَازَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا شَاءَ اللهُ مِنَ الْخَصَائِصِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي شَرَائِعِهِمْ وَأُمَمِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا التَّفْضِيلَ فِي بَعْضِ الْمُفَضَّلِينَ فَقَالَ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ بِصِيغَةِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِالظَّاهِرِ لِتَفْخِيمِ شَأْنِ هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الِالْتِفَاتِ إِلْفَاتُ الْأَذْهَانِ إِلَى هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ تَفْخِيمًا لَهَا وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَهَذَا التَّكْلِيمُ كَانَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِسَيِّدِنَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [٤: ١٦٤] وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [٧: ١٤٣] وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [٧: ١٤٤] فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى قَدْ خُصَّ بِتَكْلِيمٍ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَإِنْ كَانَ وَحْيُ اللهِ - تَعَالَى - عَامًّا لِكُلِّ الرُّسُلِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشُّورَى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ

مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [٤٢: ٥١] فَجَعَلَ كَلَامَهُ لِرُسُلِهِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَكْلِيمَ مُوسَى كَانَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي فِي الْآيَةِ، وَكُلُّهَا تُسَمَّى وَحْيَ اللهِ وَكَلَامَ اللهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّكْلِيمِ كَانَ لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي تَجَلِّي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِمَنْ كَلَّمَ اللهُ هُنَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ " مَنْ " يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ.

أَقُولُ: وَقَدْ خَاضَ عُلَمَاءُ الْعَقَائِدِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّكْلِيمِ وَتَبِعَهُمُ الْمُفَسِّرُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَالْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ التَّكْلِيمَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ اللهِ - تَعَالَى - كَالتَّعْلِيمِ وَالْكَلَامُ مَا يَكُونُ بِهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى - صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ مَا فِي عِلْمِهِ، وَتَكْلِيمُهُ الرُّسُلَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْلَامِهِمْ بِمَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ، وَمَا بِهِ الْإِعْلَامُ هُوَ كَلَامُ اللهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ: شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ، أَيْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - مُتَّصِفٌ فِي الْأَزَلِ بِالْكَلَامِ، أَيْ بِالصِّفَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا التَّكْلِيمُ مَتَى شَاءَ، كَمَا أَنَّهُ مُتَّصِفٌ فِي الْأَزَلِ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْخَلْقُ وَالتَّقْدِيرُ مَتَى شَاءَ، هَذَا أَوْضَحُ مَا يُبَيَّنُ بِهِ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - النَّفْسِيِّ، وَهُوَ أَنَّ لَهُ صِفَةً ذَاتِيَّةً، بِهَا يُعَلِّمُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>