للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

دَلِيلًا عَلَى أُلُوهِيَّةٍ، فَالْمَخْلُوقُ عَبْدٌ كَيْفَمَا خُلِقَ، وَإِنَّمَا الْإِلَهُ هُوَ الْخَالِقُ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَعِيسَى لَمْ يُصَوِّرْ أَحَدًا فِي رَحِمِ أُمِّهِ ; وَلِذَلِكَ صَرَّحَ بَعْدَ هَذَا بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ.

وَبِوَصْفِهِ - تَعَالَى - بِالْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ. أَقُولُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذِكْرِ الْأَرْحَامِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ عِيسَى تَكَوَّنَ وَصُوِّرَ فِي الرَّحِمِ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَهَذَا رَدٌّ لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِبَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى تَمْيِيزِ عِيسَى عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ ; إِذْ وَرَدَ فِيهِ أَنَّهُ رُوحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ. فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ مَعْنَاهَا حَتَّى حَاوَلْتُمْ جَعْلَهَا نَاقِضَةً لِلْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ فِي تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ.

(بَحْثُ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ) أَقُولُ: الْمُحْكَمَاتُ مِنْ أَحْكَمَ الشَّيْءَ بِمَعْنَى: وَثَّقَهُ وَأَتْقَنَهُ. وَالْمَعْنَى الْعَامُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ الْمَنْعُ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْكَمٍ يَمْنَعُ بِإِحْكَامِهِ تَطَرُّقَ الْخَلَلِ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ الْحُكْمُ وَالْحِكْمَةُ وَحِكْمَةُ الْفَرَسِ، قِيلَ وَهِيَ أَصْلُ الْمَادَّةِ. وَ " الْمُتَشَابِهُ " يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا لَهُ أَفْرَادٌ أَوْ أَجْزَاءٌ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَعَلَى مَا يَشْتَبِهُ مِنَ الْأَمْرِ أَيْ يَلْتَبِسُ. قَالَ فِي الْأَسَاسِ: " وَتَشَابَهَ الشَّيْئَانِ وَاشْتَبَهَا، وَشَبَّهْتُهُ بِهِ وَشَبَّهْتُهُ إِيَّاهُ وَاشْتَبَهَتِ الْأُمُورُ وَتَشَابَهَتْ: الْتَبَسَتْ لِإِشْبَاهِ بَعْضِهَا بَعْضًا. وَفِي الْقُرْآنِ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ، وَشَبِهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ: لُبِّسَ عَلَيْهِ، وَإِيَّاكَ وَالْمُشْتَبِهَاتِ: الْأُمُورَ الْمُشْكِلَاتِ " وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِالْإِحْكَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ بِقَوْلِهِ: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [١١: ١] وَهُوَ مِنْ إِحْكَامِ النَّظْمِ وَإِتْقَانِهِ أَوَ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ آيَاتُهُ عَلَيْهَا، وَوُصِفَ كُلُّهُ بِالْمُتَشَابِهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [٣٩: ٢٣] أَيْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي هِدَايَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالتَّفَاوُتِ وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [٤: ٨٢] أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [٢: ٢٥] فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَا جِيئُوا بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ أَخِيرًا يُشْبِهُ مَا رُزِقُوهُ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّهُمُ اشْتَبَهُوا بِهِ لِهَذَا التَّشَابُهِ.

وَقَالُوا: إِنَّ الْأَصْلَ فِي وُرُودِ التَّشَابُهِ بِمَعْنَى الْمُشْكِلِ الْمُلْتَبِسِ أَنْ يَكُونَ الِالْتِبَاسُ فِيهِ بِسَبَبِ شَبَهِهِ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مُلْتَبِسٍ مَجَازًا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَسَاسِ أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ حَقِيقَتَانِ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ كُلُّهُ بِالْمُحْكَمِ وَبِالْمُتَشَابِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتْقَنٌ وَيُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِيمَا ذُكِرَ. وَالتَّقْسِيمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى اسْتِعْمَالِ كُلٍّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ فِي مَعْنًى خَاصٍّ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَقْوَالٍ:

(أَحَدُهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ هِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [٦: ١٥١] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا. وَالْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ الَّتِي تَشَابَهَتْ عَلَى الْيَهُودِ، وَهِيَ أَسْمَاءُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ ; وَذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>