للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحضارة إنّما هي تفنّن في التّرف وإحكام الصّنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله فلكلّ واحد منها صنائع في استجادته والتّأنّق فيه تختصّ به ويتلو بعضها بعضا وتتكثّر باختلاف ما تنزع إليه النّفوس من الشّهوات والملاذّ والتّنعّم بأحوال التّرف وما تتلوّن به من العوائد فصار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعيّة الرّفه للملك وأهل الدّول أبدا يقلّدون في طور الحضارة وأحوالها للدّولة السّابقة قبلهم. فأحوالهم يشاهدون، ومنهم في الغالب يأخذون، ومثل هذا وقع للعرب لمّا كان الفتح وملكوا فارس والرّوم واستخدموا بناتهم وأبناءهم ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة فقد حكي أنّه قدّم لهم المرقّق [١] فكانوا يحسبونه رقاعا وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحا ومثال ذلك كثير فلمّا استعبدوا أهل الدّول قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليهم أفادوهم علاج ذلك والقيام على عمله والتّفنّن فيه مع ما حصل لهم من اتّساع العيش والتّفنّن في أحواله فبلغوا الغاية في ذلك وتطوّروا بطور الحضارة والتّرف في الأحوال واستجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية وسائر الماعون والخرثيّ [٢] وكذلك أحوالهم في أيّام المباهاة والولائم وليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية وانظر ما نقله المسعوديّ والطّبريّ وغيرهما في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصّلح وركب إليها في السّفين وما أنفق في أملاكها [٣] وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها تقف من ذلك على العجب فمنه أنّ الحسن بن سهل نثر يوم الأملاك في الصّنيع الّذي حضره حاشية المأمون فنثر على


[١] الخبز المرقوق.
[٢] اردأ المتاع.
[٣] أملاكها: زواجها.

<<  <  ج: ص:  >  >>